الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالدعاء عبادة، والعبادات مبناها على التوقيف، فلا يعبد الله إلا بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، والدعاء والتأمين بشكل جماعي بعد دفن الميت بدعة محدثة، لأنه لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا من هدي أصحابه رضي الله عنهم، ولو كان خيرا لسبقونا إليه. فعلى المسلم الابتعاد عن مثل ذلك، والتقيد بالمأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيه غنية عما سواه، وسلامة من البدع والمحدثات، كما سبق بيانه في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 16651، 45913، 36932.
وقال الشيخ ابن عثيمين في (فتاوى نور على الدرب): لا يجتمع الجميع على دعاءٍ واحد؛ لأن ذلك من البدع، حيث إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يرشد إلى ذلك ولم يفعله بنفسه، بل كان يقف ويقول: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت. ولم يكن يدعو وهم يؤمنون ولا أرشد إلى هذا .. اهـ.
ولا بد هنا من التنبه إلى أن هذا الترجيح للبدعية لا يرفع الخلاف، فقد صرح بعض أهل العلم بكون ذلك لا حرج فيه، كما جاء في فتاوى (اللجنة الدائمة للإفتاء): أما الدعاء له بعد الدفن من الأفراد أو الجماعة فهو مشروع اهـ.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: لا حرج في أن يدعو واحد، ويؤمن السامعون أو يدعو كل واحد بنفسه للميت اهـ.
وقال النووي في (منهاج الطالبين): يسن أن يقف جماعة بعد دفنه عند قبره ساعة يسألون له التثبت اهـ.
ولا يصح مع هذا الخلاف أن نقطع بالبدعية وإن رجحناها، ولا سيما أن السائل الكريم قد ذكر أنهم لا يكررون هذا الفعل، وإنما يجيء عرضا مرة واحدة أو مرات متباعدة جدا، مع علمهم بخلاف العلماء في هذا، مع ما ذكر من بقية الملابسات.
وهذا الذي ذكر السائل من ترك ما يعتقدون رجحانه تطييبا لخواطر أهل الميت ودفعا للحرج عن أنفسهم، فيه شبه بدرجةٍ ما، من أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر أن يُعمر أخته عائشة رضي الله عنهم من التنعيم، كما في الصحيحين. فإنه لم يكن من هدي السلف الجمع بين إحرامين بنسكين بسفر واحد؛ وقد سبق التنبيه في الفتوى رقم: 19943على أن ذلك كان تطييبا لخاطرها.
وعلى هذا نص بعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، قال صديق حسن خان في كتابه (حسن الأسوة بما ثبت من الله ورسوله في النسوة): قال شيخ الإسلام وتلميذه الإمام ابن القيم: لا دليل على إحرام العمرة من الحل، وإنما جوز النبي صلى الله عليه وسلم عمرة عائشة مع أخيها من التنعيم تطييبا لخاطرها اهـ.
وقال ابن حجر في (الفتح): إنما أعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها لكونها لم تطف بالبيت لما دخلت معتمرة، وقد وقع في رواية لمسلم: وكان النبي صلى الله عليه وسلم رجلا سهلا إذا هويت الشيء تابعها عليه اهـ. يعني إذا لم يكن فيه مخالفة شرعية، فإن كانت فيه كان أبعد الناس عنه.
وقريب من ذلك أيضا أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له فلبئس ابن العشيرة أو بئس رجل العشيرة. فلما دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة: يا رسول الله قلت له الذي قلت ثم ألنت له القول. قال: يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه الناس اتقاء فحشه. متفق عليه. قال النووي: إِنَّمَا أَلَانَ لَهُ الْقَوْل تَأَلُّفًا لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ عَلَى الْإِسْلَام اهـ.
ولا يخفى أن هذا بخلاف المسائل التي تظهر بدعيتها بجلاء أو يحصل على ذلك إجماع من أهل العلم، أو يواظب عليها أصحابها حتى كأنها سنة، ففي مثل هذه الأحوال لا تنبغي موافقة أهلها ولو على سبيل المجاملة، كما سبق التنبيه عليه في الفتوى رقم: 59029.
وأما ما ذكرته ـ أيها السائل ـ عن حال هؤلاء الناس الذين يصمونكم بالبدعة، ويشغبون عليكم ويحذرون منكم، بل وصل الأمر إلى حد المقاطعة والهجر، فهذا هو الأجدر بوصف البدعة. ونوصيكم بإزاء هذا بأمرين:
ـ الأول: أن تجتهدوا في تعليم الناس السنن ونشر العلم بينهم، وتأخذوا بزمام المبادرة إلى ذلك، فإن هذا سيكفيكم مئونة فعل ما ترون رجحان مخالفته للسنة.
ـ الثاني: أن تصبروا على مخالفيكم وتتأنوا بهم وتحلموا عنهم، ولا تقابلوا السيئة بمثلها، وإن جادلتموهم فجادلوهم بالتي هي أحسن، فإن وصل الأمر إلى حد الخصومة واللدد، فدعوا المراء واشتغلوا بما ينفعكم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا. رواه أبو داود، وحسنه الألباني.
والله أعلم.