الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد قال سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء:35}.
وحث النبي صلى الله عليه وسلم على كثرة ذكر الموت، وأخبر عن فوائد ذلك، فقال: أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادمِ اللَّذَّاتِ، فَمَا ذَكَرَهُ عَبْدٌ قَطُّ وَهُوَ فِي ضِيقٍ إِلاَّ وَسَّعَهُ عَلَيْهِ، وَلاَ ذَكَرَهُ وَهُوَ فِي سَعَةٍ إِلاَّ ضَيَّقَهُ عَلَيْهِ. رواه ابن حبان في صحيحه، والبيهقي في شعب الإيمان، والطبراني في الأوسط، وحسنه الهيثمي والألباني.
قال القرطبي رحمه الله في كتابه التذكرة: قال العلماء : تذكر الموت يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي ويذهب الفرح بالدنيا و يهون المصائب فيها. انتهى.
ولا ينبغي أن تكون كثرة ذكر المسلم للموت مثبطة أو باعثة على الوسوسة واليأس أو الهلع وترك العمل، أو التفريط وتجاوز حد الاعتدال فيصبح التفكير بالموت مسيطرا على عقله وشاغلاً له عن مهامه وطاعاته وتربية عياله، فإن ذاك من مكائد الشيطان ووساوسه.
والمطلوب هو الاعتدال والتوازن مع كثرة ذكر الموت، ويكون ذلك بأن يجعل المسلم ذكر الموت باعثا له على العمل، مرققا لقلبه، شاغلا له بما فيه صلاحه، مباعدا له عما يوبقه، ومن كانت هذه حاله فهو أحزم الناس وأشرفهم، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاشِرَ عَشَرَةٍ ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَنْ أَكْيَسُ النَّاسِ وَأَحْزَمُ النَّاسِ ؟ فَقَالَ : أَكْثَرَهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ، وَأَشَدُّهُمُ اسْتِعْدَادًا لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ، أُولَئِكَ هُمُ الأَكْيَاسُ ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَكَرَامَةِ الآخِرَةِ. رواه ابن ماجة، والطبراني في الصغير وحسنه المنذري والهيثمي وقال العراقي: إسناده جيد.
قال ثابت البناني: كان يقال: ما أكثر أحد ذكر الموت إلا رؤي ذلك في عمله.
فينبغي إذا لمن تذكر الموت أن يحسن عمله، وأن يجتهد في رعاية مصالحه، ثم لا يضره متى مات.
قال أبوحازم: كل عمل تكره الموت من أجله فاتركه ثم لا يضرك متى مت.
وقال القرطبي في التذكرة: وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم، و لا زمن معلوم، ولا مرض معلوم، و ذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك، مستعداً لذلك. انتهى.
فاجتهدي أختنا الكريمة في العمل، وعليك بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أخشع الأمة وأعلمهم بالله وأشدهم ذكرا للموت، ومع هذا دعا إلى الله وجاهد في سبيله، وكان يضحك حتى تبدو نواجذه، وكان يمزح ولا يقول إلا حقا، وكان يجلس يستمع لأصحابه وهم يتذاكرون أمور الجاهلية ويبتسم، فلم يمنعه ذكر الموت عن مثل هذه الأمور، فعليك بالتوازن والاعتدال، ونسأل الله أن يحسن خواتيمنا جميعا.
والله أعلم.