الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي. وفي بعض الروايات: هي الجماعة. رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. وقال عنه ابن تيمية: (هو حديث صحيح مشهور)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
وفي رواية معاوية بن أبي سفيان: (هي الجماعة)، قال عنها ابن تيمية رحمه الله: (هذا حديث محفوظ)، وقال عنه الألباني: صحيح، في السلسلة الصحيحة.
وتحديد الفرقة الناجية في هذا الحديث اختلفت فيه أقوال العلماء، فقد ذكر فيها الإمام الشاطبي في كتاب الاعتصام خمسة أقوال، عزاها إلى قائليها، إلا قولاً واحداً لم يعزُه، وهي:
1-السواد الأعظم: قال: فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة، وعلماؤها، وأهل الشريعة العاملون بها، ومن سواهم داخلون في حكمهم، لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم.
2-أئمة العلماء المجتهدون: والمقصود بهم العلماء الأعلام من أئمة الهدى المتبعين للكتاب والسنة، قال الشاطبي: (فمن خرج على علماء الأمة مات ميتة جاهلية).
3-الصحابة على الخصوص: قال الشاطبي: (فعلى هذا القول فلفظ الجماعة مطابق للرواية الأخرى، في قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أنا عليه وأصحابي" فكأنه راجع إلى ما قالوه، وما سنوه، واجتهدوا فيه حجة على الإطلاق).
4-جماعة أهل الإسلام: إذا أجمعوا على أمر وجب على بقية أهل الملل اتباعهم، قال الشاطبي: (وكأن هذا القول يرجع إلى الثاني وهو يقتضي أيضاً ما يقتضيه، أو يرجع إلى القول الأول وهو الأظهر).
وهذا القول مشكل جداً، لأن أهل الإسلام أنفسهم ينقسمون إلى فرق، والمقصود تحديد الفرقة الناجية، ولذلك لم يذكره ابن حجر عن الطبري، وذكر الأقوال الأربعة الأخرى، فإسقاط هذا القول أولى، لا سيما وأن الشاطبي لم يذكر قائله.
5-أنها جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير وجب على بقية الأمة لزومه. قال الشاطبي في بيانه: (وحاصله أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة، وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة المذكورة في الأحاديث المذكورة، كالخوارج ومن جرى مجراهم)، هذا، ولما كان القول الرابع منتقداً لأنه ينافي المقصود من الحديث لم ينقله ابن حجر في فتح الباري عن ابن جرير الطبري، واكتفى بنقل الأقوال الأربعة الباقية.
ونحن نجد بالنظر أن خلاصة هذه الأقوال الأربعة أن المقصود بالجماعة الناجية أمران:
الأول: جماعة العقيدة والمنهج، وذلك بأن يلتزم المسلم ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين، من أمور الاعتقاد وأصول الدين، وهذا هو الأصل والأساس.
الثاني: الجماعة -بالمعنى الخاص- وذلك بلزوم جماعة المسلمين التي لها إمام موافق للشرع، وعدم مفارقتها، وعدم نكث بيعة الإمام فضلاً عن الخروج عليه. وراجع في ذلك كتاب: وجوب لزوم الجماعة.
وقد نحا الإمام الخطابي منحى آخر قريباً من هذا في كتاب العزلة فقال: الفُرقة فرقتان: فرقة الآراء والأديان، وفرقة الأشخاص والأبدان، والجماعة جماعتان، جماعة هي الأئمة والأمراء، وجماعة هي العامة والدهماء. اهـ.
وهذا الحديث السابق علامة من علامات النبوة، حيث أخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر غيبي، وقد حصل افتراق الأمة إلى فرق كثيرة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فوقع كما أخبر.
ولكي نحدد مواقع المختلفين في كل زمان، لا بد من وضع ضابط نستطيع به أن نعرف هذه الفرق من غيرها، إذ ليس كل اختلاف بين المسلمين يُدخلهم في هذه الفرق، كما هو الحال في هذه الأيام، إذا حصل اختلاف بين المسلمين في وسائل الدعوة إلى الله، وطريقة تحصيل العلم الشرعي وفقه الواقع، فكل هذا ليس مما نحن بصدده من تعيين الفرق المذكورة في الحديث، وقد ذكر المباركفوري في شرحه على سنن الترمذي ضابط الداخلين في هذه الفرق، والخارجين منها، فقال: (قال العلقمي: قال: شيخنا: ألف الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي، في شرح هذا الحديث كتاباً قال فيه: قد علم أصحاب المقالات أنه صلى الله عليه وسلم لم يُرد بالفرق المذمومة المختلفين في فروع الفقه، من أبواب الحلال والحرام، وإنما قصد بالذم من خالف أهل الحق في أصول التوحيد، وفي تقدير الخير والشر، وفي شروط النبوة والرسالة، وفي موالاة الصحابة، وما جرى مجرى هذه الأبواب، لأن المختلفين فيها قد كفر بعضهم بعضاً، بخلاف النوع الأول، فإنهم اختلفوا فيه من غير تكفير ولا تقسيم للمخالف فيه، فيرجع تأويل الحديث في افتراق الأمة إلى هذا النوع من الخلاف. انظر تحفة الأحوذي.
والله أعلم.