الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل، والقرآن هو خاتم الكتب، ومن ثم فلا جرم في تكفل الله بحفظ هذا الكتاب؛ إذ هو آية صدق نبينا صلى الله عليه وسلم، وأعظم شاهد على صحة نبوته ولا غرابة في ذلك، قال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ. {العنكبوت51}. وليكون حجة على المعاندين إلى قيام الساعة، ومحجة للسالكين على طريق الاستقامة والفلاح، وحفظ الله لكتابه من رحمته الواسعة التي شمل بها هذه الأمة فإنه تكفل هو بنفسه بحفظ القرآن، ووكل حفظ الكتب السابقة للأحبار والرهبان، فقصروا وخانوا الأمانة، ومن ثم تطرق إليها التبديل والزيادة والنقصان، كما قال تعالى عنهم: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. {المائدة: 44}.
قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله عند تفسير هذه الآية: ومن لطائف القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد ما حكاه عياض في المدارك عن أبي الحسن ابن المنتاب قال : كنت عند إسماعيل يوما فسئل : لم جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن فقال : لأن الله تعالى قال في أهل التوراة: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. فوكل الحفظ إليهم . وقال في القرآن: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. {الحجر:9} . فتعهد الله بحفظه فلم يجز التبديل على أهل القرآن . قال : فذكرت ذلك للمحاملي فقال : لا أحسن من هذا الكلام. انتهى. وقال عند قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ . مبينا بعض الحكم في حفظ القرآن دون غيره من الكتب: وفي هذا مع التنويه بشأن القرآن إغاظة للمشركين بأن أمر هذا الدين سيتم وينتشر القرآن ويبقى على مر الأزمان . وهذا من التحدي ليكون هذا الكلام كالدليل على أن القرآن منزل من عند الله آية على صدق الرسول صلى الله عليه و سلم؛ لأنه لو كان من قول البشر أو لم يكن آية لتطرقت إليه الزيادة والنقصان ولاشتمل على الاختلاف قال تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. {النساء: 82}. انتهى.
فبعد هذا البيان الواضح لا يبقى عند المؤمن شك في الحكمة العظيمة التي اقتضت تخصيص القرآن بالحفظ دون سائر الكتب.
والله أعلم.