الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فرحم الله والدكم وقضى عنكم ديونكم، وقد فهمنا من سؤالكم أن أباكم عليه دين حالّ من شراكته في المشروع القديم، ودين مؤجل للمشروع الجديد، فأما الدين الحال فقضاؤه من التركة بعد تجهيز الميت وتكفينه هو من أهم الحقوق. وتأخيره يضر بالميت.
فعن سمرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هاهنا أحد من بني فلان؟ فلم يجبه أحد. ثم قال: هاهنا أحد من بني فلان؟ فلم يجبه أحد. ثم قال: هاهنا أحد من بني فلان؟ فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: ما منعك أن تجيبني في المرتين الأوليين؟ أما إني لم أنوه بكم إلا خيرا، إن صاحبكم مأسور بدينه. فلقد رأيته أدى عنه حتى ما بقي أحد يطلبه بشيء. رواه أبو داود والنسائي وأحمد، وحسنه الألباني.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من فارق الروح الجسد وهو بريء من ثلاث دخل الجنة: من الكبر والغلول والدين. رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
وأما الدين المؤجل، فقد اختلف أهل العلم: هل يحل بالموت فيلزم المبادرة بقضائه كالديون الحالّة، أم لا يحل وينتقل حق الأجل إلى الورثة، جاء في الموسوعة الفقهية: ذهب الحنفية والمالكية والشافعية والثوري والشعبي والنخعي وسوار، وهو الرواية المرجوحة للحنابلة إلى أن الديون التي على الميت تحل بموته. قال ابن قدامة : لأنه لا يخلو إما أن يبقى الدين في ذمة الميت، أو الورثة، أو يتعلق بالمال. لا يجوز بقاؤه في ذمة الميت لخرابها وتعذر مطالبته بها، ولا ذمة الورثة لأنهم لم يلتزموها ولا رضي صاحب الدين بذممهم، وهي مختلفة متباينة. ولا يجوز تعليقه على الأعيان وتأجيله؛ لأنه ضرر بالميت وصاحب الدين ولا نفع للورثة فيه، أما الميت فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نفس المؤمن معلقة ما كان عليه دين. وأما صاحبه فيتأخر حقه وقد تتلف العين فيسقط حقه، وأما الورثة فإنهم لا ينتفعون بالأعيان ولا يتصرفون فيها، وإن حصلت لهم منفعة فلا يسقط حظ الميت وصاحب الدين لمنفعة لهم.
والمذهب عند الحنابلة، وهو قول ابن سيرين وعبيد الله بن الحسن العنبري وأبي عبيد: أن الديون على الميت لا تحل بموته، إذا وثق الورثة أو غيرهم برهن أو كفيل مليء على أقل الأمرين من قيمة التركة أو الدين. قال ابن قدامة: لأن الموت ما جعل مبطلا للحقوق، وإنما هو ميقات للخلافة وعلامة على الوراثة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من ترك حقا أو مالا فلورثته. فعلى هذا يبقى الدين في ذمة الميت كما كان، ويتعلق بعين ماله كتعلق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه، فإن أحب الورثة أداء الدين والتزامه للغريم ويتصرفون في المال لم يكن لهم ذلك إلا أن يرضى الغريم، أو يوثقوا الحق بضمين مليء أو رهن يثق به لوفاء حقه، فإنهم قد لا يكونون أملياء ولم يرض بهم الغريم فيؤدي إلى فوات الحق. اهـ.
ولا شك أن الأولى والأحوط والأبرأ للذمة أن تسارعوا لقضاء دين والدكم كله، فإن لم يتيسر لكم ذلك فيستحب لكم أن تطلبوا من أصحاب الديون أن يحتالوا بهذا الدين عليكم لتبرأ ذمة أبيكم وبالتالي يصبح الدين في ذمتكم ، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 120290.
والله أعلم.