الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فمن أراد الإحرام بالحج من المكيين والمقيمين بمكة، فإنه يحرم منها، لقوله صلى الله عليه وسلم: ومن كان دون ذلك فمهله من حيث أنشأ حتى أهل مكة يهلون من مكة.
وأما إذا أراد الإحرام بالعمرة: فلا بد من أن يخرج إلى أدنى الحل، وذلك لما ثبت في الصحيح من أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر ـ أخا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ـ أن يخرج بها إلى التنعيم لتحرم بالعمرة حين أرادت ذلك، فإلزامها بالخروج إلى الحل دليل على أنه ليس لها أن تحرم من مكة.
وأن الحديث الأول خاص بالحج، والفرق بين الحج والعمرة واضح، وقد بين العلامة العثيمين هذه المسألة بيانا حسنا في الشرح الممتع بما عبارته: وقول المؤلف: وعمرته من الحل ـ هذا الذي عليه جمهور أهل العلم أن من كان في مكة وأراد العمرة، فإنه يحرم من الحل، ودليل هذا أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما طلبت منه عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن تعتمر أمر أخاها عبد الرحمن ـ رضي الله عنه ـ وقال: اخرج بأختك من الحرم، فلتهل بعمرة من الحل.
فدل ذلك على أن الحرم ليس ميقاتاً للعمرة، ولو كان ميقاتاً للعمرة، لم يأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم عبد الرحمن بن أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ أن يخرج بأخته، ويتجشم المصاعب في تلك الليلة لتحرم من الحل، لأنه من المعلوم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يتبع ما هو أسهل ما لم يمنعه منه الشرع فلو كان من الجائز أن يحرم بالعمرة من الحرم لقال لها: أحرمي من مكانك.
فإن قال قائل: ماذا تقولون في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: يهل أهل المدينة من ذي الحليفة؟ ثم ذكر المواقيت، وقال: من كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة، مع أنه قال في الحديث: ممن أراد الحج أو العمرة.
فظاهر العموم: أن العمرة لأهل مكة تكون من مكة.
قلنا: هذا الظاهر يعارضه حديث عائشة ـ رضي الله عنها: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: أمر أخاها أن يخرج بها لتحرم من التنعيم.
فإن قال قائل: عائشة ليست من أهل مكة، فأمرت أن تخرج إلى الحل لتحرم منه.
قلنا: ليس المانع من إحرام الآفاقي بالعمرة من مكة هو أنه ليس من أهل مكة، بدليل أن الآفاقي يحرم بالحج من مكة، فلو كانت مكة ميقاتاً للإحرام بالعمرة، لكانت ميقاتاً لأهل مكة وللآفاقيين الذين هم ليسوا من أهلها وهذا واضح.
وـ أيضاً ـ العمرة هي الزيارة، والزائر لا بد أن يفد إلى المزور، لأن من كان معك في البيت إذا وافقك في البيت لا يقال: إنه زارك، وهذا ترجيح لغوي.
ونقول ـ أيضاً: كل نسك فلا بد وأن يجمع فيه بين الحل والحرم، بدليل أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: أمر عائشة أن تحرم من الحل، لتجمع في نسكها بين الحل والحرم.
فإن قال قائل: هذا ينتقض عليكم بالإحرام بالحج من مكة.
قلنا: لا ينتقض، لأن الذي يحرم بالحج لا يمكن أن يطوف بالبيت حتى يأتي إلى البيت من الحل أي عرفة، لأنه سيقف بعرفة، ولا يمكن أن يطوف للإفاضة إلا بعد الوقوف بعرفة، وبهذا تبين أن القول بأن أهل مكة يحرمون بالعمرة من مكة قول ضعيف، لا من حيث الدليل ـ فقط ـ بل من حيث اللغة، والمعنى ـ أيضا. انتهى بتصرف بسيط.
وبه تعلم: أن خروج الحاج إلى الحل ووقوفه بعرفة هو المعنى الذي لأجله رخص له في الإحرام من مكة، لكونه يجمع في نسكه بين الحل والحرم.
وأما خروجه إلى منى: فليس له تأثير في الحكم، لأن منى من الحرم.
وأما المدينة: فهي حرم ـ بلا شك ـ فعن علي ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المدينة حرم ما بين عير إلى ثور. وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على المدينة فقال: اللهم إني أحرم ما بين جبليها، كما حرم إبراهيم مكة. متفق عليهما. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ومن أراد الإحرام بالحج أو العمرة وهو بالمدينة، فإنه يحرم من ذي الحليفة ـ فهي ميقات أهل المدينة ـ وقتها النبي صلى الله عليه وسلم لهم، ومنها أحرم في عمرة الحديبية وعمرة القضية، ومنها أحرم لحجته صلى الله عليه وسلم، فالإحرام منها أفضل، وإن أحرم المدني من المدينة أجزأه ذلك في قول الجمهور، ونقل ابن المنذر الإجماع على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم وتثبت له أحكام الإحرام.
والله أعلم.