الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فاعلمي أيتها الأخت الكريمة أن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالعدل، وندب إلى الفضل، ونهى عن الظلم، فقال جل وعلا: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ. {الشورى: 40-43 }.
قال السعدي رحمه الله: ذكر الله في هذه الآية، مراتب العقوبات، وأنها على ثلاث مراتب: عدل وفضل وظلم. فمرتبة العدل، جزاء السيئة بسيئة مثلها، لا زيادة ولا نقص، فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يضمن بمثله. ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }. يجزيه أجرا عظيما، وثوابا كثيرا، وشرط الله في العفو الإصلاح فيه، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورا به. وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل. وأما مرتبة الظلم فقد ذكرها بقوله: { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }. الذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم. تيسير الكريم الرحمن
وعلى ذلك فإن الظلم يشمل مجاوزة الحد في رده كما يشمل الابتداء به.
وقال ابن عاشور في تفسير قوله تعالى: وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي...{النحل:90}: وَخَصَّ اللَّهُ بِالذِّكْرِ نَوْعًا مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَهُوَ الْبَغْيُ اهْتِمَامًا بِالنَّهْيِ عَنْهُ وَسَدًّا لِذَرِيعَةِ وُقُوعِهِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ تَنْسَاقُ إِلَيْهِ بِدَافِعِ الْغَضَبِ وَتَغْفُلُ عَمَّا يَشْمَلُهُ مِنَ النَّهْيِ مِنْ عُمُومِ الْفَحْشَاءِ بِسَبَبِ فُشُوِّهِ بَيْنَ النَّاسِ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا أَهْلَ بَأْسٍ وَشَجَاعَةٍ وَإِبَاءٍ، فَكَانُوا يَكْثُرُ فِيهِمُ الْبَغْيُ عَلَى الْغَيْرِ إِذَا لَقِيَ الْمُعْجَبُ بِنَفْسِهِ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا يَكْرَهُهُ أَوْ مُعَاملَة يعدّها هضيمة وَتَقْصِيرًا فِي تَعْظِيمِهِ. وَبِذَلِكَ كَانَ يَخْتَلِطُ عَلَى مُرِيدِ الْبَغْيِ حُسْنُ الذَّبِّ عَمَّا يُسَمِّيهِ الشَّرَفَ وَقُبْحُ مُجَاوَزَةِ حَدِّ الْجَزَاءِ.
فَالْبَغْيُ هُوَ الِاعْتِدَاءُ فِي الْمُعَامَلَةِ، إِمَّا بِدُونِ مُقَابَلَةِ ذَنْبٍ كَالْغَارَةِ الَّتِي كَانَتْ وَسِيلَةَ كَسْبٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِمَّا بِمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي مُقَابَلَةِ الذَّنْبِ كَالْإِفْرَاطِ فِي الْمُؤَاخَذَةِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ}. [سُورَة الْبَقَرَة: 194] . وَقَالَ: {ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ}. [سُورَة الْحَج: 60] من التحرير والتنوير.
وبخصوص معنى الإصلاح في قوله تعالى : {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ}. فليس كما ذكرت في سؤالك، ولكن معناه: من ترك القصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو. من تفسير القرطبي.
وهذه هي طريقة القرآن؛ أي: مشروعية العدل مع الندب إلى الفضل.
وقوله تعالى : { فَمَنْ عَفَا } أي عن المسيء إليه { وَأَصْلَحَ } ما بينه وبين من يعاديه بالعفو والإغضاء عما صدر منه { فَأَجْرُهُ عَلَى الله } فيجزيه جل وعلا أعظم الجزاء ، تصريح بما لوح إليه ذلك من الحث وتنبيه على أنه وإن كان سلوكاً لطريق الاحتياط يتضمن مع ذلك إصلاح ذات البين المحمود حالاً ومآلا ليكون زيادة تحريض عليه، وإبهام الأجر وجعله حقاً على العظيم الكريم جل شأنه الدال على عظمه زيادة في الترغيب، وجيء بالفاء ليفرعه عن السابق أي إذا كان سلوك الانتصار غير مأمون العثار فمن عفا وأصلح فهو سالك الطريق المأمون العثار المحمود في الدارين ، وقوله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين }. المتجاوزين الحد في الانتقام، تتميم لذلك المعنى وتصريح بما ضمن من عسر رعاية طريق المماثلة وأنه قلما تخلو عن الاعتداء والتجاوز لا سيما في حال الحرد والتهاب الحمية فيكون دخولاً في زمرة من لا يحبه الله تعالى. من روح المعاني.
وعلى ذلك فالعفو أحوط لبراءة ذمتك من التعدي في رد الظلم. فعليك أن تلتزمي بحدود الله عز وجل ولا تعتديها، وتذكري قوله تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. {النور:22}.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا. رواه مسلم.
وإن أبيت إلا رد الإساءة فالتزمي بحدود العدل ولا تتجاوزيها. وإلا وقعت في الإثم والظلم.
والله أعلم.