الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأما ما ذكر في السؤال من زهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وشدة حاجتهم وجوعهم وفقر بعضهم، فصحيح، وقد سبق أن أشرنا إلى شيء من ذلك في الفتوى رقم: 56929.
ولكن الاستدلال بذلك على أنهم كانوا لا يعملون استدلال خاطئ تماما، ولا نُخفي السائلَ تعجبنا من فهمه هذا، مع قوله في السؤال: (ونحن نعلم أن رسولنا صلى الله عليه وسلم كان يحثنا على العمل وأن لا نمد يدنا للناس وأن نستعفف) !! فإن الأمر كان كذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به من الناس خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه ذلك، فإن اليد العليا أفضل من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول. متفق عليه.
وسبب هذا الفهم الخاطئ أن السائل الكريم لم يستوعب حقيقة العيش في المجتمع المدني بعد الهجرة، ولم يتصور حجم المعاناة وطبيعة الإشكالات التي واجهت الصحابة الكرام بعدها، وما انشغلوا به من جهاد وغزو وتعلم وتعليم، ولن نطيل ببيان ذلك، ويكفي القارئ الكريم أن يراجع كتب السيرة ليقف على هذه الحقائق جلية، ونكتفي هنا لتصوير شيء من هذه الأحوال بعد الهجرة، ثم لبيان حالهم بعد استقرار الأمور وحصول الفتوحات وانتشار الإسلام ـ بقول أبي مسعود البدري رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالصدقة فما يجد أحدنا شيئا يتصدق به حتى ينطلق إلى السوق فيحمل على ظهره فيجيء بالمد فيعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني لأعرف اليوم رجلا له مائة ألف ما كان له يومئذ درهم. رواه البخاري والنسائي واللفظ له.
ثم نذكر السائل الكريم بقوله تعالى في وصف المهاجرين: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ {البقرة: 273}
قال ابن كثير: يعني المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى الله وإلى رسوله، وسكنوا المدينة وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم و{ لا يستطيعون ضربا في الأرض } يعني سفرا للتسبب في طلب المعاش. اهـ.
والله أعلم.