الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد سبق أن أجبنا السائل الكريم في الفتوى رقم: 135019. ونزيده توضيحا هنا في ما يتعلق بمسألة الترتيب الزمني بين مراتب التقدير، وهي العلم والكتابة والمشيئة والخلق. فأما العلم فليس له أول؛ لأن علم الله تعالى صفة ذاتية، فهو أزلي لم يزل موجودا. وأما الكتابة فهي حادثة ومتأخرة عن العلم، وقد كانت قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. رواه مسلم.
وأما المشيئة والخلق فهما مقارنتان لوجود الفعل لا يتخلفان عنه ولا يتخلف عنهما، فإن المشيئة هي الإرادة الكونية التي يكون بها الخلق، كما قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {يس: 82}
وقال سبحانه لمريم: كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {آل عمران: 47}
قال العلامة صالح آل الشيخ في شرح الطحاوية - عندما تعرض للفرق بين القضاء والقدر - قال: القدر أعم من القضاء، والقضاء قد يكون بعض مراتب القدر من حيث الإطلاق. ولهذا قال بعض أهل العلم في تبيين ذلك: إن القضاء هو القدر إذا وقع، وقبل وقوع المقدر لا يسمى قضاء ... وهذا يتبيّن بأنَّ مراتب القَدَر الأربعة، منها مرتبتان سابقتان وهما مرتبة العلم والكتابة، ومنها مرتبتان مقارنتان لوقوع المقدر وهما المشيئة والخلق. ولهذا إذا نُظِرَ لوقوع المُقَدَّر من جهة عموم الخلق وعموم المشيئة فإنَّهُ حينئذٍ يكون قضاءً لله عز وجل لهذا الشيء .. ولهذا نقول: القَدَر سابق، والقضاء لاحق. والقَدَر فيه عدة صفات لله عز وجل: العلم والكتابة والمشيئة والخلق، وأما القضاء فهو يدل على خلقه سبحانه وتعالى للشيء ومشيئته له. اهـ. بتصرف.
ثم قال بعد ذلك عن مرتبتي العلم والكتابة: علم الله السابق بالأشياء علم أزلي، والله سبحانه وتعالى عِلْمُهُ صفة ذاتية له، فما شاء الله عز وجل أو أراد أن يُوقِعَهُ في ملكوته، مُوَقَتاً بوقته، مُقَدَّراً بزمان وصفته، فإنه سبحانه وتعالى عَلِمَ ذلك على وجه التفصيل لكمال علمه وأنه سبحانه بكل شيء عليم. وأما كتابته عز وجل للأشياء، فإنَّ الله كَتَبَ مقادير الخلائق مؤخراً؛ يعني قبل خَلْقِ السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما جاء في الحديث. اهـ.
وأما مسألة الأمثلة التي طلبها السائل، فلم نجد في ذلك أوضح معنىً، ولا أيسر أسلوبا، من خاتمة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي لشرح القصيدة التائية لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهي الرسالة الموسومة بـ : (الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية: فقد قال بعد انتهائه من شرح التائية: خاتمة في ذكر أمثلة متنوعة تكشف لك مسألة القضاء والقدر، حيث كان المقام من أهم الأمور، وقد حارت فيه أفهام كثير من الأذكياء، ولم يهتد إلى الصواب المحض كثير من العلماء. وكثير منهم يأخذ مسائله على وجه التقليد، غير مقتنع بوجه يجمع فيه بين الإيمان بشمول القضاء والقدر، مع أن العبد هو الفاعل حقيقة لفعله وهو الممدوح أو الملوم على كسبه. مع أن الشيخ ـ يعني ابن تيمية رحمه الله ـ حقق هذا المقام في هذا النظم، غاية التحقيق، وبين فيه الهدى من الضلال، حتى وضح الطريق، لكن الأمثلة تزيد البصير بصيرة، وتزيل عن الشاك الطالب للحق الريب والحيرة. ولهذا، نقول في ضرب الأمثلة المتعلقة بهذه المسألة العظيمة ....اهـ.
ثم ضرب خمسة أمثلة، ينبغي للسائل أن يرجع إليها، بل يقرأ الشرح كله، ليزول عنه ما يجد في هذا الباب، وليقف على جلية مذهب أهل السنة فيه.
والكتاب متوفر على الشبكة العنكبوتية، وقد شرحه الدكتور عبد الرَّزَّاق بنِ عبد المُحسن العبَّاد البَدر، في دروس صوتية، متوفرة أيضا على الشبكة.
والله أعلم.