الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنريد ـ أولا ـ الإشارة إلى أنه ليس من السهل القطع بوجود إجماع في أمر معين، ولذا قال الإمام أحمد ـ رحمه الله: من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يُدريك أنهم أجمعوا، لعلهم اختلفوا.
وليس معنى هذا أن الإجماع غير موجود، وإنما القصد ذكر صعوبة القطع به، مع أنه ليس ضروريا وجود الإجماع في أمر معين، بل يكفي أن يدل للمسألة دليل من الكتاب أو السنة، أو تكون مقيسة على ما له دليل، وأن لا يعارض ما استدل له بدليل أقوى منه.
وفي خصوص ما سألت عنه، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.
قال فيه النووي: معناه: إذا أراد أن يتكلم فإن كان ما يتكلم به خيرا محققا يثاب عليه ـ واجبا كان أو مندوبا ـ فليتكلم، وإن لم يظهر له أنه خير يثاب عليه فليمسك عن الكلام، فعلى هذا يكون المباح مأمورا بالإمساك عنه خوف انجراره إلى الحرام والمكروه. هـ.
فدل الحديث على التأكيد في لزوم الصمت وأن قول الخير أفضل من الصمت، قال أهل العلم: لأن قول الخير غنيمة والسكوت سلامة، والغنيمة أفضل من السلامة، وكذلك قالوا: قل خيرا تغنم واسكت عن شر تسلم.
وفي خصوص ما لمحت إليه من تعارض بين أمره صلى الله عليه وسلم بالصمت عن المباح وبين كلامه هو في المباح فإنك واهمة فيه من وجهين:
الأول: أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت مثالاً رائعاً للحياة الإنسانية المتكاملة، فهو يبش ويبتسم ويداعب ويمزح ولا يقول إلا حقاً، ولم يكن صلى الله عليه وسلم جهماً ولا قاسياً ولا فظاً ولا غليظاً، قال تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضوا مِنْ حَوْلِكَ.
بل كان بساماً في وجوه أصحابه.
فهذا المزاح وهذا الابتسام ليسا من قبيل المباح المأمور بالسكوت عنه، بل هما من الخير المأمور بفعله.
ثانيا: أن الأمر بالصمت إنما هو خوف الانجرار إلى الخطإ ـ كما تقدم في كلام النووي ـ والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من ذلك.
والله أعلم.