الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأحبك الله الذي أحببتنا فيه، ونشكر لك تواصلك معنا، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا لما يحب ويرضى.
ثم نقول لك ـ أخانا الكريم: إن ما ساءك حقيق بذلك، فمضمون هذه الحكاية يخالف ديننا قطعا، ويثلم تجريد التوحيد لرب العالمين، والله تعالى هو المسئول أن يغفر لأمواتنا، وأن يصلح أحياءنا، وقد سبق لنا بيان حكم الدعاء عند القبور في الفتوى رقم: 52015.
وأما إشكال نقل الذهبي لمثل هذه الحكايات: فهو في محله، وهذا مما يستغرب، بل يستنكر على مثل هذا العالم العَلَم، ولكن الكمال عزيز.
ثم من باب التنبيه والبيان، لئلا يحصل اغترار بشيء مما ينقله الذهبي أو غيره من علماء هذه الأمة، نقول: الحجة إنما تثبت في نصوص الشريعة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم الحجة في فهم هذه النصوص هي فهم الصحابة والتابعين لهم بإحسان من القرون الثلاثة المفضلة، وأما أقوال أهل العلم فيحتج لها ولا يحتج بها، كما سبق التنبيه عليه في الفتوى المحال عليها سابقا.
وأما بخصوص الذهبي ـ رحمه الله ـ فالذي يقرأ كتبه في التاريخ والتراجم: سير أعلام النبلاء أو غيره ـ يجد فيها كثيرا من هذا الذي استنكره السائل وحُقَّ له ذلك.
حتى إن بعض الصوفية قد جمع من ذلك كتابا من نقول الذهبي وتعليقاته على مثل هذه الحكايات، ومن ذلك كتاب: البركة والتبرك من ذهبيات ـ الحافظ الذهبي.
ولذلك نقول: لقد صدق الشيخ سليمان العلوان في كتابه: إتحاف أهل الفضل والإنصاف بنقض كتاب ابن الجوزي ـ دفع شبه التشبيه وتعليقات السقاف ـ عندما قال: والذهبي ـ عفا الله عنه ـ عنده تساهل في نقل مثل هذه الحكاية وأشباهها دون تعقب لها، وقد قرأت كتابه: السير ـ فرأيت فيه أشياء يتعجب منها، كيف يذكرها ولا يتعقبها؟ مع أن بعضها مما يناقض ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم، فكان الأولى بالذهبي ـ رحمه الله ـ ردها وإبطالها، أو عدم ذكرها، لأنها تخالف مذهب السلف، وهو واحد من علماء السلف الذين خدموا هذا الدين بالمصنفات الكثيرة، وقد رأيت بالاستقراء أهل السير والتواريخ يتساهلون في النقل، والله المستعان. هـ.
ثم ننبه على أن الذهبي ـ رحمه الله ـ وغيره من أهل العلم المعتبرين، لا يرون التوسل أو التبرك بذوات المقبورين، وإنما هو من باب الدعاء في مواطن نزول الرحمة والبركة، ولذلك لما نقل الذهبي عن إبراهيم الحربي قوله: قبر معروف الترياق المجرب.
قال: يريد إجابة دعاء المضطر عنده، لأن البقاع المباركة يستجاب عندها الدعاء، كما أن الدعاء في السحر مرجو، ودبر المكتوبات، وفي المساجد بل دعاء المضطر مجاب في أي مكان اتفق. هـ.
وقد أوضح ذلك الشوكاني في تحفة الذاكرين عند قول ابن الجزري في الحصن الحصين: وجرب استجابة الدعاء عند قبور الصالحين: حيث قال ـ رحمه الله: وجه ذلك مزيد الشرف ونزول البركة، وقد قدمنا أنها تسري بركة المكان على الداعي، كما تسري بركة الصالحين الذاكرين الله سبحانه على من دخل فيهم ممن ليس هو منهم، كما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
لكن ذلك بشرط أن لا تنشأ عن ذلك مفسدة، وهي أن يعتقد في ذلك الميت ما لا يجوز اعتقاده، كما يقع لكثير من المعتقدين في القبور، فإنهم قد يبلغون الغلو بأهلها إلى ما هو شرك بالله عز وجل، فينادونهم مع الله ويطلبون منهم ما لا يطلب إلا من الله عز وجل، وهذا معلوم من أحوال كثير من العاكفين على القبور، خصوصا العامة الذين لا يفطنون لدقائق الشرك، وقد جمعت في ذلك رسالة مطولة سميتها: الدر النضيد في إخلاص التوحيد. هـ.
ومع هذه القيود التي ذكرها الشوكاني ـ رحمه الله ـ فإن أصل القول بتحري الدعاء عند قبور الصالحين خطأ مخالف لظاهر السنة والمنقول عن السلف الصالح من القرون الأولى المفضلة، وقد فصل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال في اقتضاء الصراط: إن قيل: قد نقل عن بعضهم أنه قال: قبر معروف الترياق المجرب. وروي عن معروف أنه أوصى ابن أخيه أن يدعو عند قبره. ونقل المروزي عن جماعات بأنهم دعوا عند قبور جماعات من الأنبياء والصالحين. ..... وذكر أشياء من هذا النحو إلى أن قال: وقد أدركنا في أزمامنا وما قاربها من ذي الفضل عند الناس علما وعملا من كان يتحرى الدعاء عندها والعكوف عليها، وفيهم من كان بارعا في العلم، وفيهم من له عند الناس كرامات، فكيف يخالف هؤلاء؟ وإنما ذكرت هذا السؤال مع بعده عن طريق أهل العلم والدين، لأنه غاية ما يتمسك به القبوريون، قلنا: الذي ذكرنا كراهته لم ينقل في استحبابه فيما علمناه شيء ثابت عن القرون الثلاثة التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث قال: خير أمتي: القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.
مع شدة المقتضي عندهم لذلك لو كان فيه فضيلة، فعدم أمرهم وفعلهم لذلك مع قوة المقتضي لو كان فيه فضل يوجب القطع بأن لا فضل فيه، وأما من بعد هؤلاء فأكثر ما يفرض أن الأمة اختلفت فصار كثير من العلماء والصديقين إلى فعل ذلك، وصار بعضهم إلى النهي عن ذلك، فإنه لا يمكن أن يقال اجتمعت الأمة على استحسان ذلك لوجهين:
أحدهما: أن كثيرا من الأمة كره ذلك وأنكره قديما وحديثا.
الثاني: أنه من الممتنع أن تتفق الأمة على استحسان فعل لو كان حسنا لفعله المتقدمون ولم يفعلوه، فإن هذا من باب تناقض الإجماعات، وهي لا تتناقض، وإذا اختلف فيه المتأخرون فالفاصل بينهم هو الكتاب والسنة وإجماع المتقدمين نصا واستنباطا، فكيف ـ والحمد لله ـ لا ينقل هذا عن إمام معروف ولا عالم متبع؟ بل المنقول في ذلك إما أن يكون كذبا على صاحبه، وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف، ونحن لو روي لنا مثل هذه الحكايات المسيبة أحاديث عمن لا ينطق عن الهوى، لما جاز التمسك بها حتى تثبت، فكيف بالمنقول عن غيره؟.
ومنها: ما قد يكون صاحبه قاله أو فعله باجتهاد يخطئ ويصيب، أو قاله بقيود وشروط كثيرة على وجه لا محذور فيه، فحرف النقل عنه.
ثم سائر هذه الحجج دائرة بين نقل لا يجوز إثبات الشرع به، أو قياس لا يجوز استحباب العبادات بمثله، مع العلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرعها، وتركه مع قيام المقتضي للفعل بمنزلة فعله، وإنما يثبت العبادات بمثل هذه الحكايات والمقاييس من غير نقل عن الأنبياء النصارى وأمثالهم، وإنما المتبع في إثبات أحكام الله: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسبيل السابقين أو الأولين، لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة، نصا واستنباطا بحال. هـ.
ثم ذكر ـ رحمه الله ـ الجواب عن هذه الشبه وردها: مجملاً ومفصلاً. فليراجع تفصيله هناك.
والله أعلم.