الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا شك أن الكذب محرم في الأصل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار. متفق عليه.
ولكن كثيرا من العلماء أباحوه إذا كان يراد منه غرض محمود لا يتوصل إليه إلا به، قال في دقائق أولي النهى: ويباح الكذب لإصلاح بين الناس ومحارب ولزوجة فقط.
قال ابن الجوزي: وكل مقصود محمود لا يتوصل إليه إلا به.
وقال الإمام النووي: اعلم أن الكذب وإن كان أصله محرما فيجوز في بعض الأحوال بشروط قد أوضحتها في كتاب الأذكار، ومختصر ذلك أن الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه، وإن لم يمكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب، ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا كان الكذب مباحاً، وإن كان واجباً كان الكذب واجباً. إلى آخر كلامه.
فهذا يفيد بأن الكذب يباح إذا كان لجلب مصلحة معتبرة شرعا، وتعين وسيلة لجلبها، أو دفع مفسدة لا يمكن دفعها إلا به، وتعين وسيلة لدفعها، ولكن الأفضل للمرء أن يستعمل التورية إذا كان يريد إخفاء الحقيقة، فقد صح عن عمر وعمران بن حصين أنهما قالا: في المعاريض مندوحة عن الكذب. رواه البخاري في الأدب، وصححه الألباني.
وقال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى: فإن المعاريض عند الحاجة والتأويل في الكلام، وفي الحلف للمظلوم بأن ينوي بكلامه ما يحتمله اللفظ، وهو خلاف الظاهر، كما فعل الخليل صلى الله عليه وسلم، وكما فعل الصحابي الذي حلف أنه أخوه وعنى أنه أخوه الدين، وكما قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم للكافر الذي سأله ممن أنت؟ فقال: نحن من ماء ـ إلى غير ذلك، أمر جائز.
ولم يزل السلف يتحرون التباعد عن الكذب بالتعريض، فكان بعضهم إذا طلبه من يكره أن يخرج إليه وهو في الدار قال للجارية: قولي له: اطلبه في المسجد ولا تقولي له ليس ههنا كيلا يكون كذبا.
وكان بعضهم يخط دائرة ويقول للجارية ضعي الأصبع فيها وقولي ليس ههنا، ونحو ذلك من المعاريض.
وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 29954، 47558، 4512.
والله أعلم.