الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد روى الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة.
فهذا الحديث يبين عظيم فضل الله سبحانه وتعظيم رحمته وأنه سبحانه يغفر لمن مات على التوحيد، ولكن هذه المغفرة مقيدة بمشيئة الله جلا وعلا وقد دل على ذلك قوله سبحانه: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء.. {النساء:48}، وعلى هذا فلا ينبغي أن يغتر أحد بهذا الحديث وأمثاله مما يبين فضل الله ورحمته، لا لأن الله قد يخلف وعده حاشاه من ذلك، ولا لأن رحمته تضيق عن شمول أهل المعاصي، ولكن لأمور:
أولها: أن المغفرة في مثل هذه النصوص مقيدة بمشيئة الله -كما ذكرنا- فقد يشاء الله المغفرة، وقد يشاء العذاب.
ثانيها: أن العبد لا يضمن لنفسه أن يموت على التوحيد فإن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، وقد يسلب العبد إيمانه في أي وقت، والإكثار من المعاصي من أسباب سلب الإيمان لأن المعاصي بريد الكفر، وقد جاء في الحديث: إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة، فإن هو نزع واستغفر صقلت، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وحسنه الألباني.
ثالثها: أن هذا الحديث قد ذكر ثلاثة أسباب لمغفرة الذنوب، أولها: الدعاء والرجاء، وثانيها: الاستغفار، وثالثها: الموت على التوحيد، والدعاء والرجاء والاستغفار كلها أسباب مقدورة للعبد، بينما الموت على التوحيد ليس من مقدروه فكيف يترك الأسباب المقدورة اتكالاً على ما ليس بمقدور؟
جاء في مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح : قال ابن رجب في شرح الأربعين: قد تضمن حديث أنس هذا أن هذه الأسباب الثلاثة يحصل بها المغفرة أحدها: الدعاء مع الرجاء، والثاني: الاستغفار ولو عظمت الذنوب وبلغت الكثرة عنان السماء، والثالث: التوحيد وهو السبب الأعظم فمن فقده فقد المغفرة، ومن جاء به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة، قال الله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء. فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل، فإن شأء غفر له وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار بل يخرج منها، ثم يدخل الجنة. انتهى.
والخلاصة أنه لا يغتر بهذا الحديث وأمثاله فيكثر من المعاصي إلا جاهل عاجز.
جاء في مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح عند الكلام عن هذا الحديث: لا يجوز الاغترار به وإكثار المعاصي، فالمراد الحث على الاستغفار والتوبة، وإن الله يقبل توبة التائب ويغفر له وإن كثرت ذنوبه. انتهى.
والله أعلم.