الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فليس ثم إشكال أصلا حتى يطلب رفعه، فإن التوكل على الله والثقة به تحصل لمن كمل إيمانه وتصديقه بما أخبر الله به، وأنه يكفي من توكل عليه ويكون حسب من التجأ إليه، وبقدر كمال العلم بأسماء الرب عزوجل الحسنى وصفاته العلا تكون ثقته بربه تبارك وتعالى.
فمن علم وأيقن أن الله تعالى أرحم بعبده من الأم بولدها، وعلم أنه تعالى هو الغني الحميد الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه تعالى هو الأعلم بمصالح العبد، وأنه هو القادر على سوقها إليه أقبل بقلبه على ربه ولم يكن له تعلق بسواه، وكان حسن الظن به واثقا بما في يده تعالى، وإن كان يعلم من نفسه التقصير والتفريط والعجز، فالتوكل على الله والوثوق به ينبعث في القلب من مطالعة أسماء الرب عز وجل وصفاته، فمن كان بالله وصفاته أعلم كان توكله أتم وأكمل, يقول ابن القيم ـرحمه الله: وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب, والقيام بمصالح العباد, وسوق أرزاقهم إليهم, ودفع المصائب عنهم ونصره لأوليائه, وحمايته لهم, ومعيته الخاصة لهم, انبعثت من العبد قوة ليتوكل عليه, والتفويض إليه والرضا به في كل ما يجريه على عبده, ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه، والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله, وحسن اختياره لعبده, وثقته به, ورضاه بما يفعله ويختاره له. انتهى.
وليس بين هذا وبين شعور العبد بالتقصير والتفريط تناف البتة, فإن العبد يسير إلى الله تعالى بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل, بل إن افتقار العبد لله وشعوره بالذل والانكسار واستحضاره أنه لا حول ولا قوة وأنه لا يملك لنفسه شيئا وافتقاره إلى الله تعالى في جلب مصالحه ودفع المضار عنه من أعظم الأسباب الجالبة لكفاية الرب تعالى لعبده وجبره كسره وإقالته عثرته, يقول ابن القيم ـ رحمه الله: فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت وأن لا يرى نفسه إلا مفلسا، وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس فلا يرى لنفسه حالا ولا مقاما ولا سببا يتعلق به ولا وسيلة منه يمن بها، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف والإفلاس المحض دخول من كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع وشملته الكسرة من كل جهاته وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل وكمال فاقته وفقره إليه وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تجبر إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته, ولا طريق إلى الله أقرب من العبودية ولا حجاب أغلظ من الدعوى. انتهى.
والله أعلم.