الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن كان هذا الابن يقصد بكونه صلى الله عليه وسلم الذي كتب القرآن أنه من عنده صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس وحيا أوحاه الله إليه، فهذا مرتد والعياذ بالله عن ملة الإسلام، مكذب لما اتفق عليه المسلمون، بل هو مكذب بنبوته صلى الله عليه وسلم في الحقيقة، فالواجب أن يستتاب قائل هذا، فإن تاب وإلا عومل معاملة الكفار، فلا يرث المسلم ولا يرثه المسلم، ولا تؤكل ذبيحته، ولا يسلم عليه، وإن مات لم يغسل ولم يصل عليه، ولم يدفن في مقابر المسلمين.
ومن كان له عليه ولاية من أب أو غيره فليؤدبه وليردعه بما أمكنه من ضرب أو طرد أو غيره عله يتوب وينزجر عن غيه وضلاله.
وأما إن أراد أنه صلى الله عليه وسلم قد علمه الله الكتابة بعد إذ لم يكن كاتبا، فهذا قول ذهب إليه بعض العلماء، ولكنه خطأ مردود لقوله تعالى: وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ {العنكبوت:48}
قال القاسمي في تفسيره: قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب . وفيها ردّ على من زعم أنه كتب . انتهى .
وقال ابن كثير : وهذه صفته في الكتب المتقدمة . كما قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } [ الأعراف : 157 ] ، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً لا يحسن الكتابة ولا يخط سطراً ولا حرفاً بيده . بل كان له كتَّابٌ يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم . ومن زعم من متأخري الفقهاء ، كالقاضي ابن الوليد الباجي ومن تابعه ، أنه عليه السلام كتب يوم الحديبية : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله . فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري : ثم أخذ فكتب، وهذه محمولة على الرواية الأخرى : ثم أمر فكتب. ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي ، وتبرأوا منه وأنشدوا في ذلك أقوالاً وخطبوا به في محافلهم . وإنما أراد الرجل أعني الباجي فيما يظهر عنه . أنه كتب ذلك على وجه المعجزة . لا أنه كان يحسن الكتابة . وما أورده بعضهم من الحديث ؛ أنه لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى تعلم الكتابة ، فضعيف لا أصل له. انتهى.
فإن كان مراده هو ما ذهب إليه الباجي فليعرف الصواب، وليبين له كلام العلماء في المسألة.
وأما كونه صلى الله عليه وسلم كان غنيا فلا ريب في أنه صلى الله عليه وسلم كان أغنى الناس بالله تعالى، فإن الغنى ليس عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.
وأما من حيث اليسار وسعة ذات اليد فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يبالي الدنيا باله، وقد أتته تسعى فضرب في صدرها باليدين وردها على الأعقاب، ولو شاء أن تكون الجبال له ذهبا لكانت ولكنه آثر الكفاف، وأن يكون رزقه ورزق آله قوتا صلى الله عليه وسلم، وما كان يأتيه من الدنيا كان يأخذ منه كفايته وكفاية أهله ثم يجعل جله في مصالح المسلمين، والأخبار الواردة في سيرته صلى الله عليه وسلم في بيان تقلله من الدنيا وصبره على شدة العيش وبذله ما بيده للمسلمين من الكثرة بمكان، فإن كان مقصود هذا الابن بغناه صلى الله عليه وسلم أنه كان متوسعا في الدنيا آخذا منها بنصيب فحسبه أن يقرأ ما عقده المحدثون في كتبهم من الأبواب عن عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليتبين له حقيقة الأمر. وأما إن كان مراده أنه صلى الله عليه وسلم كان يملك الأموال فهذا صحيح ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يؤثر ما عند الله فيتصدق بها وترك أموالا حين مات وقال: لا نورث ما تركناه صدقة. وهذا لا ينافي أنه كان يترك لزوجاته نفقتهن.
والله أعلم.