الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا يصح إطلاق الكفر في حال تعليق الكفر على شيء، فقد يستعمل هذا الأسلوب للتأكيد والوثيق، كمن يقول: (أنا أكفر بالله إن لم يكن القرآن كلامه) لا يريد بذلك إلا القطع بكون القرآن كلام الله تعالى. ومن ذلك قوله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف: 81] فليس هذا إقرارا بإمكان أن يكون لله سبحانه ولد، وليس رضا بعبادة غير الله، ولكنه تأكيد للنفي وتوثيق له في نفس السامع.
ومما يوضح ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: من حلف فقال: إني بريء من الإسلام، فإن كان كاذبا فهو كما قال، وإن كان صادقا فلن يرجع إلى الإسلام سالما. رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني. قال الشوكاني في بيان معنى الحديث وتحقيقه في (نيل الأوطار): إن اعتقد تعظيم ما ذكر كفر، وإن قصد حقيقة التعليق فينظر، فإن كان أراد أن يكون متصفا بذلك كفر؛ لأن إرادة الكفر كفر، وإن أراد البعد عن ذلك لم يكفر، لكن هل يحرم عليه ذلك أو يكره تنزيها؟ الثاني هو المشهور. اهـ.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن من قال: أكفر بالله إن فعلت، ثم فعل. فإنه لا كفارة عليه، ولا يكون كافرا إلا أن أضمر ذلك بقلبه، وراجع في ذلك الفتويين: 120384، 55735.
والمقصود أنه لا يصح إطلاق الكفر في حق من علق كفره على شيء، بل لابد من التفصيل المذكور.
ولا ريب في أن الإمام العَلَم سفيان بن سعيد الثوري ـ رحمه الله ـ لم يضمر بقوله هذا البراءة من الله سبحانه إذا دخل أبو جعفر مكة، وإنما مراده قريب من معنى الإقسام على الله، إلحاحا وإظهارا لليقين في إجابة دعائه، فهو في الحقيقة كرامة من كرامات الأولياء، ولذلك علق الذهبي على هذه القصة بقوله: هذه كرامة ثابتة. اهـ.
وقد ذكر ابن القيم هذه القصة في الوجه الثامن والأربعين في الأمور التي يمكن أن يُغلب بها الهوى، وقدَّم لذلك بقوله: إن مخالفة الهوى تقيم العبد في مقام من لو أقسم على الله لأبره فيقضي له من الحوائج أضعاف أضعاف ما فاته من هواه، فهو كمن رغب عن بعرة فأعطي عوضها درة، ومتبع الهوى يفوته من مصالحه العاجلة والآجلة والعيش الهنيء ما لا نسبة لما ظفر به من هواه البتة اهـ.
وراجع للفائدة الفتويين: 35270، 99137.
والله أعلم.