الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يوفقهم للتمسك بالحق واتباعه وقبوله إذا دعوا إليه، وأما الإنكار بالقلب وحده فلا يكفي إلا عند العجز عن الإنكار باللسان، كما هو ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. رواه مسلم.
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدين النصيحة، وكان يبايع أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ على ذلك، كما قال جرير البجلي: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم. متفق عليه.
ولا شك أن من النصح المطلوب أن تنصح السائلة المتبرجات من زميلاتها في الدراسة بالحجاب، وتكرر عليهم ذلك من باب الذكرى، ولا تيأس من انتفاعهن بذلك، فقد قال الله تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ {الذاريات: 55}.
فإن قامت بواجبها تجاههن من النصح والوعظ ولم يُجد ذلك معهن، فينظر في مصلحة الابتعاد عن مخالطتهن وهجرهن فيتعين ذلك إن خيف التأثر بها، لأن الإنسان يتأثر بواقع من يخالطهم، وأقل أحواله أن يألف حصول المنكر بحضرته ولا ينكره وفي حديث أبي داود: الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل. وحديث أحمد: لا تصاحب إلا مؤمناً.
وعليه، فيتعين التحفظ من مخالطة المتبرجات وغيرهن من العصاة، لما يخشى أن يؤثر على دينك والتزامك مع الحرص على حضهن على التوبة وتعليمهن ما يجهلن وإنكار المنكر الذي يقترفنه، والدعاء لهن بالهداية والإنابة إلى الله لعل دعوة صادقة يهديهن الله بها، ففي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة، فخرجت مستبشراً بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكي من شدة الفرح، قال: قلت: يا رسول الله أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال خيراً... إلى آخر الحديث.
وإذا كان الإنسان لا يخشى التأثر من مخالطة العصاة فهنا تراعى المصلحة في البعد عنهم وهجرهم، فإن كان المهجور سيؤدي به الهجر للتوبة والرجوع عما هو عليه شرع هجره، وإذا كان المهجور يزداد شراً وفساداً بالهجر، فصلته حينئذ مع دعوته والصبر عليه ومواصلة نصحه مع الدعاء له أولى من هجره والتباعد عنه كما صبر الأنبياء على أممهم ولم يهجروهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوما ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من أكثر المؤلفة قلوبهم لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم. اهـ.
وإذا كان عدم الهجر أفضل فلا يضر المسلم مرافقة العصاة ومجالستهم إذا نهاهم عن المنكر وناصحهم حتى ولو لم يقبلوا نصحه، فإن الله تعالى لما قال: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {الأنعام: 68}. قال بعدها: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {الأنعام 69}.
قال السعدي: هذا النهي والتحريم لمن جلس معهم ولم يستعمل تقوى الله بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم وعن الإنكار، فإن استعمل تقوى الله تعالى بأن كان يأمرهم بالخير، وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم، فيترتب على ذلك زوال الشر، أو تخفيفه، فهذا ليس عليه حرج ولا إثم، ولهذا قال: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ـ أي: ولكن ليذكرهم، ويعظهم لعلهم يتقون الله تعالى. اهـ.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير: في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المسلمين قالوا: لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه فمنعناهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ولا أن نطوف بالبيت، فنزلت هذه الآية.
والثاني: أن المسلمين قالوا: إنا نخاف الإثم إن لم ننههم عن الخوض، فنزلت هذه الآية.
والثالث: أن المسلمين قالوا: لو قمنا عنهم إذا خاضوا فإنا نخشى الإثم في مجالستهم، فنزلت هذه الآية، هذا عن مقاتل والأولان عن ابن عباس، قوله تعالى: وَلَكِنْ ذِكْرَى ـ أي ولكن عليكم أن تذكروهم، وفيما تذكرونهم به قولان، أحدهما: المواعظ، والثاني: قيامكم عنهم. اهـ.
والله أعلم.