الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إنما ردت ما لم تصح عندها نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم، لعلة فيه، أو وهم راويه، أو ما ظنته غير مراد للنبي صلى الله عليه وسلم من حيث الفقه والمعنى. فهي في حقيقة الأمر ترد أوهام الرواة في الإسناد أو في المعنى.
قال الحافظ ابن رجب في (شرح علل الترمذي): قد ذكرنا فيما تقدم أن الرواة ينقسمون أربعة أقسام: أحدهما: من يتهم بالكذب. والثاني: من لا يتهم، ولكن الغالب على حديثه الوهم والغلط. وأن هذين القسمين يترك تخريج حديثهم إلا لمجرد معرفته. والثالث: من هو صادق، ويكثر في حديثه الوهم ولا يغلب عليه. وقد ذكرنا الاختلاف في الرواية عنه وتركه. والرابع: الحفاظ الذي يندر أو يقل الغلط والخطأ في حديثهم وهذا هو القسم المحتج به بالاتفاق. وقد ذكر الترمذي حكم الأقسام الثلاثة فيما تقدم. وذكر ههنا حكم القسم الرابع. وهم الحفاظ المتقنون الذي يقل خطؤهم. وذكر أنه لم يسلم من الغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم، وهو كما قال ... قال ابن المبارك: ومن يسلم من الوهم، وقد وهمت عائشة جماعة من الصحابة في رواياتهم للحديث. وقد جمع جزءا في ذلك. ووهم سعيد بن المسيب ابن عباس في قوله: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم. وقرأت بخط أبي حفص البرمكي الفقيه الحنبلي: ذكرت لأبي الحسن ـ يعني الدارقطني ـ: جاء عمرو بن يحيى المازني، في ذكره الحمار موضع البعير في توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر. وأن أحمد لم يضعفه بذلك. فقال أبو الحسن: مثل هذا في الصحابة. قال: روى رافع بن عمرو المزني. قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على بغلة بمنى. وروى الناس كلهم خطبة النبي صلى الله عليه وسلم على ناقة أو جمل. أفيضعف الصحابي بذلك؟ انتهى.
وقد ذكر الأثرم لأحمد أن ابن المديني كان يحمل على عمرو بن يحيى، وذكر له هذا الحديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمار". قال: إنما هو على بعير. فقال أحمد: هذا سهل. اهـ.
فحقيقة هذه الاستدراكات أنها داخلة في ما اصطلح عليه بعد ذلك في علوم الحديث: بعلم العلل.
قال الدكتور تركي الغميز في رسالته للدكتوراه في تحقيق جزء من علل أبي حاتم: علم العلل بمعناه العام قد وجد حيث وجدت الرواية، وذلك في الصدر الأول في عصر الصحابة رضوان الله عليهم، ثم ما زال يتسع ويتشعب تبعاً لاتساع الرواية وتشعب طرقها، ويمكن جمع أمثلة عديدة من مواقف بعض الصحابة من بعض ما يسمعون من غيرهم مما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم، كرد عائشة لجملة مما رواه غيرها واستنكارها لذلك وتوهيم راويه، بل ربما صححت له لفظ الحديث وبينت سبب وهمه فيه، وهذا اختلاف في لفظ الحديث وهو داخل في العلة بمعناها الخاص. اهـ.
وهذا يعني أن هذه الاستدراكات لون من ألوان التثبت في الرواية والتحفظ في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الدكتور محمود الدليمي في رسالته للدكتوراة (جرح الرواة وتعديلهم الأسس والضوابط) في مبحث: (التثبت عند الصحابة): ومن أمثلة التثبت في الحديث عند الصحابة رضي الله عنهم استدراك بعضهم على بعض في رواية الحديث، إذا علم أحدهم أن هناك حديثا يروى على غير وجهه الصحيح. وكان استدراك الصحابة رضي الله عنهم بعضهم على بعض أمرا معتادا وشائعا بينهم لأن أحدهم لم يدع العصمة لنفسه، ولعلمهم أن تركهم لهذا الأمر يجعل العالم منهم كاتما للعلم وهو ما توعد عليه الشارع الحكيم على لسان رسوله الكريم. ومن الجدير بالذكر أنه ليس بالضرورة أن يكون المستدرك أعلى مرتبة من المستدرك عليه، بل الأمر مرهون بالحفظ والسماع، فمن حفظ فهو حجة على من لم يحفظ، وكان الصحابة رضي الله عنهم يتقبلون ذلك بكل رحابة وانبساط لأن "الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها". وممن اشتهر من الصحابة رضي الله عنهم بكثرة استدراكاته: عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين وزوج النبي صلى الله عليه وسلم ـ وذكر لذلك ثلاثة أمثلة، ثم قال: وغير ذلك كثير مما حفلت به كتب السنن والآثار من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، تقضي بأنهم كانوا أمناء الله على سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، اختارهم الله بعلم لتبليغ أحداث عصر الرسالة إلى الأمة الإسلامية بكل أمانة وصدق. اهـ.
والمقصود أن عائشة وغيرها من الصحابة الكرام لم يكن استدراك بعضهم على بعض من باب التهمة بالكذب، وإنما كان من باب توهيم الراوي وبيان خطئه في التحمل أو في الأداء، صيانةً لجناب الشرع، وأداءً لأمانة العلم. ولذلك كثر عن عاشة تمهيدها لعذر من تستدرك عليهم من الصحابة، ومن ذلك قولها في حق الفاروق عمر وابنه عبد الله لروايتهما حديث: إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله. قالت: إنكم لتحدثوني عن غير كذّابين ولا مكذّبين ولكن السمع يخطئ. رواه مسلم. وعند مسلم أيضا قولها: يغفر الله لابن عمر أما إنه لم يكذب ولكنه نسي.
وكذلك قولها في حق أبي هريرة: رحم الله أبا هريرة أساء سمعا فأساء إجابة. رواه الطحاوي والحاكم والبيهقي.
وفي مسند الطيالسي عن مكحول قال: قيل لعائشة: إن أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشؤم في ثلاث في الدار والمرأة والفرس. فقالت عائشة: لم يحفظ أبو هريرة؛ إنما دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قاتل الله اليهود يقولون إن الشوم في ثلاث في الدار والمرأة والفرس. فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله.
فهذا مثال لاستدراك عائشة على الصحابة.
وقد جمع هذا النوع من الأحاديث بعض أهل العلم في رسالة خاصة، كرسالة السيوطي (عين الإِصابة في استدراك عائشة على الصحابة). ومن قبله الزركشي في رسالته (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة).
ويمكن الرجوع للفتويين: 74324، 25255 للوقوف على مثالين مما استدركته السيدة عائشة على الصحابة.
وأما العدد الذي ذكر السائل (53) حديثا.. فلم نجد من أهل العلم من نص على هذا العدد، وأظن أن من أطلقه اعتمد على عدد الأحاديث الذي ذكرها السيوطي في رسالته، فقد بلغ عدة أحاديثه بزياداته على الزركشي: ثلاثة وخمسين حديثا، بترقيم محقق الكتاب عبد الله الدرويش.
وجدير بالذكر أن ننبه على أن هذه الأحاديث منها ما لا تصح نسبته إلى عائشة أصلا من حيث ضعف إسناده. ومنها ما صح عنها ولكن هي بالاستدراك أولى، وهذا مبحث يطول، وهو مبثوث في كتب الفقه وشروح السنة .
والله أعلم.