الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالذي اطلعنا عليه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة إتيان القبور والدعاء عندها والاستنجاد بأصحابها، أنه على ثلاث درجات، كما جاء في (مختصر الفتاوى المصرية) و (المستدرك على مجموع الفتاوى) حيث قال رحمه الله: من يأتي إلى القبر أو إلى رجل صالح ويستنجده فهذا على ثلاث درجات: ـ إحداها: أن يسأل حاجته، مثل أن يقول: اغفر لي ونحوه، فهذا شرك كما تقدم. ـ الثانية: أن يطلب منه أن يدعو له لأنه؛ أقرب إلى الإجابة، فهذا مشروع في الحي. وأما الميت فلم يشرع لنا أن نقول له: ادع لنا، ولا: اسأل لنا ربك. ولم يفعل ذلك أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد في حديث؛ بل في الصحيح: «أن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس» ولم يأت قبر النبي صلى الله عليه وسلم .... ـ وأما القسم الثالث: وهو أن يقول: اللهم بجاه فلان عندك، أو ببركة فلان، أو بحرمة فلان عندك، افعل لي كذا وكذا. فهذا يفعله كثير من الناس، لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء ... اهـ.
وجاء نحو ذلك أيضا في (مجموع الفتاوى) حيث قال الشيخ: المراتب في هذا الباب ثلاث: ـ إحداها: أن يدعو غير الله وهو ميت أو غائب، سواء كان من الأنبياء والصالحين أو غيرهم، فيقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا أستجير بك أو أستغيث بك، أو انصرني على عدوي. ونحو ذلك فهذا هو الشرك بالله ... ـ الثانية: أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي، أو ادع لنا ربك أو اسأل الله لنا. كما تقول النصارى لمريم وغيرها، فهذا أيضا لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة ... ـ الثالثة: أن يقال: أسألك بفلان أو بجاه فلان عندك، ونحو ذلك الذي تقدم عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما أنه منهي عنه. وتقدم أيضا أن هذا ليس بمشهور عن الصحابة بل عدلوا عنه إلى التوسل بدعاء العباس وغيره. وقد تبين ما في لفظ " التوسل " من الاشتراك بين ما كانت الصحابة تفعله وبين ما لم يكونوا يفعلونه، فإن لفظ التوسل والتوجه في عرف الصحابة ولغتهم هو التوسل والتوجه بدعائه وشفاعته. ولهذا يجوز أن يتوسل ويتوجه بدعاء كل مؤمن .. اهـ.
ومما يفيد في إيضاح النوع الثاني قوله رحمه الله: قال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا. أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء فقال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم هم عبادي كما أنتم عبادي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، ويتقربون إلي كما تتقربون إلي. فنهى سبحانه عن دعاء الملائكة والأنبياء مع إخباره لنا أن الملائكة يدعون لنا ويستغفرون، مع هذا فليس لنا أن نطلب ذلك منهم. وكذلك الأنبياء والصالحون وإن كانوا أحياء في قبورهم وإن قدر أنهم يدعون للأحياء وإن وردت به آثار، فليس لأحد أن يطلب منهم ذلك، ولم يفعل ذلك أحد من السلف؛ لأن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم وعبادتهم من دون الله تعالى؛ بخلاف الطلب من أحدهم في حياته فإنه لا يفضي إلى الشرك؛ ولأن ما تفعله الملائكة ويفعله الأنبياء والصالحون بعد الموت هو بالأمر الكوني فلا يؤثر فيه سؤال السائلين، بخلاف سؤال أحدهم في حياته فإنه يشرع إجابة السائل وبعد الموت انقطع التكليف عنهم. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 72205، 128815، 112724.
والله أعلم.