الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذه شبهة داحضة نسجتها خيالات دعاة الباطل ليلبسوا بها على أتباعهم ويوهموهم أن المسلمين يعبدون الأوثان ـ والعياذ بالله ـ والله تعالى يخلق ما يشاء ويختار، وقد اختار بلده الحرام من بين سائر بقاع الأرض فجعلها أحب البلاد إليه، ووضع فيها بيته العتيق وجعله قبلة المسلمين في صلاتهم، وكان ذلك من تمام نعمته عليهم وكمال هدايته لهم، كما قال تعالى في ختام الآيات الآمرة باستقبال القبلة: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {البقرة:150}.
وأمر تعالى المسلمين بحج هذا البيت والطواف به تعظيما لله سبحانه، لأنه من شعائر الله، قال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ {الحج:32}.
فطواف المسلمين بالكعبة واستقبالهم البيت في صلاتهم هو من تعظيم شعائر الله تعالى وهم يفعلونه طاعة له سبحانه وامتثالا لأمره، عالمين أن الكعبة وكل المخلوقات لا يملكون ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، وأن الله وحده هو مالك الضر والنفع، وأن الأمور كلها بيديه وحده سبحانه، ومن ثم فإنهم لا يتوجهون بعبادتهم لسواه فلا يدعون إلا إياه ولا يرجون ويخافون غيره ممتثلين أوامره مجتنبين زواجره معظمين لما أمرهم بتعظيمه طالبين بذلك فضله ورحمته سبحانه، وكذا تعظيمهم للحجر الأسود وتقبيلهم له في طوافهم إنما هو اتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وطلب لمثوبة الله وابتغاء لفضله، وليس ذلك عبادة للحجر ـ عياذا بالله ـ ولا طلبا لجلب نفع أو دفع ضر من جهته حاشا وكلا، ولقد عبَّر أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ عن هذا المعنى دافعا لهذه الشبهة مبينا وجه تقبيله للحجر بيانا لا مزيد عليه فقال كما خرج مسلم في صحيحه: والله إني لأقبلك وإني أعلم أنك حجر وأنك لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بيَّن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنّ العباداتِ مبناها على متابعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذْ كان دينُ الإسلام مبنيًّا على أصلينِ:
أحدهما: أن لا يعبُد إلا الله، لا يُشرِك به شيئًا.
والثاني: أن يَعبده بما شرع من الدين، لا يعبده بشَرْع مَن شرعَ مِن الدين ما لم يأذَن به الله، كالذين قال فيهم: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ـ فأخبرَ عمرُ أنا لم نُقبِّلْك نَرجو منفعتَك ونخافُ مَضرَّتَك، كما كان المشركون يفعلون بأوثانهم، بل نعلم أنك حجر لا تَضُرُّ ولا تنفع، ولولا أن الرسول قَبلك ـ وقد أمرنا الله باتباعِه، فصارَ ذلك عبادةً مشروعةً ـ لما قبَّلْتك، لسنا كالنصارى والمشركين وأهل البدع الذين يعبدون غيرَ الله بغيرِ إذن الله، بل لا نعبد إلاّ الله بإذن الله، كما قال لنبيه: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ـ 45 ـ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ـ 46 ـ فبيَّن أن رسوله يدعو إليه بما أذن فيه من الشَّرع، لا بما لم يأذن به، كالذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله. انتهى.
ولعل في هذا القدر ما يزيل عنك الإشكال، وخلاصته أن تقبيل الحجر والطواف بالكعبة واستقبالها في الصلاة إنما يفعله المسلمون عبادة لله وتقربا إليه وحده سبحانه لأمر الله لهم بذلك، فهم يفعلونه طاعة لله معتقدين أن الله وحده هو الذي يضر وينفع، وأن هذه المخلوقات كلها لا تملك ضرا ولا نفعا.
والله أعلم.