الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الجالس في مجلس يكفر فيه بالله وهو كاره لذلك منكر بقلبه فليس كافرا بذلك، وانظر الفتوى رقم: 176045.
والأدلة على عدم كفر المنكر بقلبه كثيرة، ولا نعلم خلافا معتبرا بين أهل العلم في عدم تكفيره، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت الإيمان للمنكر بقلبه وعدم المؤاخذة لكاره المنكر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. رواه مسلم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويتقيدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. رواه مسلم وغيره.
وقال صلى الله عليه وسلم: إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها. رواه أبو داود، وحسنه الألباني.
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. رواه مسلم.
قال السيوطي في الديباج: أي هو المؤاخذ المعاقب. اهـ.
والواجب عليك هو الإنكار بقدر الاستطاعة وعدم المجالسة لهم حتى يخوضوا في حديث غيره، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: لا يجوز لأحد أن يحضر مجالس المنكر باختياره لغير ضرورة كما في الحديث أنه قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر ـ ورفع لعمر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر فأمر بجلدهم, فقيل له إن فيهم صائما فقال: ابدءوا به, أما سمعتم الله يقول: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ـ بين عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ أن الله جعل حاضر المنكر كفاعله, ولهذا قال العلماء: إذا دعي إلى وليمة فيها منكر كالخمر والزمر لم يجز حضورها, وذلك أن الله تعالى قد أمرنا بإنكار المنكر بحسب الإمكان, فمن حضر المنكر باختياره ولم ينكره فقد عصى الله ورسوله, بترك ما أمره به من بغض إنكاره والنهي عنه, وإذا كان كذلك فهذا الذي يحضر مجالس الخمر باختياره من غير ضرورة ولا ينكر المنكر كما أمره الله هو شريك الفساق في فسقهم فيلحق بهم. اهـ.
ولعل الأصل فيما أشرت إليه من قول البعض بالكفر هو قوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ {النساء: 140}.
فقد قال الشوكاني: قوله: إنكم إذا مثلهم ـ تعليل للنهي: أي إنكم إن فعلتم ذلك ولم تنتهوا فأنتم مثلهم في الكفر قيل، وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر كما في قول القائل: وكل قرين بالمقارن يقتدي، ولكن هذا لا يخرج العبد من الملة هكذا بإطلاق ولو لم ينكر فأحرى إذا أنكر بقلبه، بل إن التأثيم به إنما يكون مع الرضا بقولهم وإقرارهم عليه.
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله: فالرجل لو يسمع الكفر والكذب والغيبة والغناء والشبابة من غير قصد منه، بل كان مجتازا بطريق فسمع ذلك لم يأثم بذلك باتفاق المسلمين، ولو جلس واستمع إلى ذلك ولم ينكره لا بقلبه ولا بلسانه ولا يده كان آثما باتفاق المسلمين، كما قال تعالى: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون وقال تعالى: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ـ فجعل القاعد المستمع من غير إنكار بمنزلة الفاعل، ولهذا يقال: المستمع شريك المغتاب، وفي الأثر: من شهد المعصية وكرهها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها ورضيها كان كمن شهدها ـ فإذا شهدها لحاجة أو لإكراه أنكرها بقلبه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. انتهى.
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: هذه المماثلة لهم خارجة مخرج التغليظ والتهديد والتخويف، ولا يصير المؤمن منافقاً بجلوسه إلى المنافقين، وأريد المماثلة في المعصية لا في مقدارها، أي أنّكم تصيرون مثلهم في التلبّس بالمعاصي. اهـ.
وقال الطبري: يعني: فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال، مثلُهم في فعلهم، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم وأنتم تسمعون آياتِ الله يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله، فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتَوْه منها، فأنتم إذًا مثلهم في ركوبكم معصية الله وإتيانكم ما نهاكم الله عنه. اهـ.
وقال الجصاص في تفسيره: قوله تعالى: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها ـ فيه نهي عن مجالسة من يظهر الكفر والاستهزاء بآيات الله, فقال تعالى: فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ـ وقوله: إنكم إذا مثلهم ـ قد قيل فيه وجهان: أحدهما: في العصيان وإن لم تبلغ معصيتهم منزلة الكفر, والثاني: أنكم مثلهم في الرضا بحالهم في ظاهر أمركم, والرضا بالكفر والاستهزاء بآيات الله تعالى كفر, ولكن من قعد معهم ساخطا لتلك الحال منهم لم يكفر, وإن كان غير موسع عليه في القعود معهم، وفي هذه الآية دلالة على وجوب إنكار المنكر على فاعله وأن من إنكاره إظهار الكراهة إذا لم يمكنه إزالته وترك مجالسة فاعله والقيام عنه حتى ينتهي ويصير إلى حال غيرها، فإن قيل: فهل يلزم من كان بحضرته منكر أن يتباعد عنه وأن يصير بحيث لا يراه ولا يسمعه؟ قيل له: قد قيل في هذا أنه ينبغي له أن يفعل ذلك إذا لم يكن في تباعده وترك سماعه ترك الحق عليه, من نحو ترك الصلاة في الجماعة لأجل ما يسمع من صوت الغناء والملاهي, وترك حضور الجنازة لما معه من النواح, وترك حضور الوليمة لما هناك من اللهو واللعب، فإذا لم يكن هناك شيء من ذلك فالتباعد عنهم أولى, وإذا كان هناك حق يقوم به لم يلتفت إلى ما هناك من المنكر وقام بما هو مندوب إليه من حق بعد إظهاره لإنكاره وكراهته، وقال قائلون: إنما نهى الله عن مجالسة هؤلاء المنافقين ومن يظهر الكفر والاستهزاء بآيات الله، لأن في مجالستهم تأنيسا لهم ومشاركتهم فيما يجري في مجلسهم، وقد قال أبو حنيفة في رجل يكون في الوليمة فيحضر هناك اللهو واللعب: إنه لا ينبغي له أن يخرج, وقال: لقد ابتليت به مرة، وروي عن الحسن أنه حضر هو وابن سيرين جنازة وهناك نواح, فانصرف ابن سيرين, فذكر ذلك للحسن فقال: إنا كنا متى رأينا باطلا وتركنا حقا أسرع ذلك في ديننا لم نرجع، وإنما لم ينصرف لأن شهود الجنازة حق قد ندب إليه وأمر به فلا يتركه لأجل معصية غيره, وكذلك حضور الوليمة قد ندب إليها النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجز أن يترك لأجل المنكر الذي يفعله غيره إذا كان كارها له وقد حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن عبد الله الغداني قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن نافع قال سمع ابن عمر مزمارا فوضع أصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق وقال لي: يا نافع هل تسمع شيئا؟ فقلت: لا, فرفع أصبعيه من أذنيه وقال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا ـ وهذا هو الاختيار، لئلا تساكنه نفسه ولا تعتاد سماعه فيهون عنده أمره, فأما أن يكون واجبا فلا. اهـ.
وللفائدة راجع الفتوى رقم: 182035.
والله أعلم.