الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فزوال الجبال الوارد في القرآن إنما يكون عند قيام الساعة، وذلك إنما يكون بالنفخ في الصور، كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) [النمل]. قال ابن قتيبة في غريب القرآن: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} أي واقفةً: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ} تَسِيرُ سَيْرَ {السَّحَابِ} هذا إذا نُفِخ في الصُّورِ. يريد: أنها تُجْمَعُ وتُسَيَّرُ، فهي لكثرتها كأنها جامدةٌ: وهي تَسيرُ اهـ.
ويؤكد هذا قوله سبحانه: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) [الحاقة], وقوله عز وجل: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) [النبأ], وقوله تبارك وتعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) ـ إلى أن قال: ـ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) [طه].
قال الشيخ حافظ حكمي في معارج القبول: يأمر الله تعالى إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ، فينفخ نفخة الفزع .. فيسير الله الجبال فتمر مرَّ السحاب فتكون سرابًا، ثم ترتج الأرض بأهلها رجًّا فتكون كالسفينة المرمية في البحر تضربها الأمواج. اهـ.
وقال الشيخ صالح آل الشيخ في شرح الطحاوية: فيما بين النفخة الأولى والنفخة الثانية تحصل أشياء حتى تحصل حياة الإنسان من جديد، وهي أن الله عز وجل يغير الأرض ويغير معالمها، وتسير الجبال وتدك، والأرض تكون مستوية وتعد لمسير الناس إلى أرض محشرهم. اهـ.
وقال الدكتور الأشقر في القيامة الكبرى: يخبرنا ربنا تبارك وتعالى أن أرضنا الثابتة، وما عليها من جبال صم راسية تحمل في يوم القيامة عندما ينفخ في الصور فتدك دكة واحدة: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ - وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً - فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) [الحاقة: 13-15] ، (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) [الفجر: 21] ، وعند ذلك تتحول هذه الجبال الصلبة القاسية إلى رمل ناعم، كما قال تعالى: (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا) [المزمل: 14] ، أي تصبح ككثبان الرمل بعد أن كانت حجارة صماء ... اهـ.
وجاء في كتاب (صحيح أشراط الساعة) لمصطفى الشلبي: والذي ينبغي معرفته في هذا المقام أنه يتبع نفخة الصعق انقلاب كوني تختل فيه الأفلاك، وتضطرب دورتها فترتجف الأرض الثابتة وتزلزل، وتتناثر الجبال الراسية وتسير كأنها تمر مر السحاب, وتحمل الأرض والجبال لتدك دكة واحدة تسوي عاليها بسافلها, كما قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) [الحاقة] اهـ.
وقال ابن كثير: يقول تعالى: {ويسألونك عن الجبال} أي: هل تبقى يوم القيامة أو تزول؟ {فقل ينسفها ربي نسفا} أي: يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييرا. اهـ.
والحاصل أن الجبال تزول وتسير من أماكنها ثم تدك وتنسف، وذلك بعد النفخة الأولى في الصور .
وأما اختباء المسيح عليه السلام وأصحابه من يأجوج ومأجوج في جبل الطور فإنما يكون قبل النفخ في الصور وقيام الساعة، وعلى ذلك فلا إشكال.
وأما حديث سمرة مرفوعا: لا تقوم الساعة حتى تزول الجبال عن أماكنها؛ وترون الأمور العظام التي لم تكونوا ترونها. رواه الطبراني وحسنه الألباني بطرقه, ولكن ألفاظ محل الشاهد من هذه الطرق مختلفة ومحتملة, ولا يخلو إسناد منها من مقال، وأكثرها لا يدل على زوال جميع الجبال، فمن هذه الألفاظ عند أحمد والطبراني: "حتى تزول جبال عن مراتبها، ثم على إثر ذلك يكون القبض", ومنها عند الطبراني: "سوف ترون جبالا تزول قبل حق الصيحة".
وهذه الألفاظ لا تتعارض مع بقاء الجبال في الجملة ـ وإن كان بعضها يزول ـ إلى أن ينفخ في الصور فيحدث ما قدمناه في صدر الجواب.
وأما حديث ابن مسعود مرفوعا في بيان أمارات الساعة، وفيه ذكر خروج الدجال وقتله ثم خروج يأجوج ومأجوج، قال: ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم، فعهد إليَّ متى كان ذلك كانت الساعة من الناس كالحامل التي لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها . رواه ابن ماجه وأحمد. فالصواب أن هذا الحديث بهذا السياق لا يصح، وقد بيَّن ذلك الشيخ الألباني وقال في الضعيفة: الحديث ضعيف غير مقبول بهذا السياق. اهـ.
وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند: قوله بعد ذلك: "ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم" يخالف ما هو معروف أن ذلك يكون حين قيام الساعة لا قبلها. اهـ.
والله أعلم.