الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الكلام من الكذب والافتراء المعروف عن أهل البدع في حق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عن معاوية رضي الله عنه إساءة أدب ولا مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكنه قد ثبت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاوية : ( لا أشبع الله بطنه ) وذلك فيما أخرج مسلم عن ابن عباس قال : كنت ألعب مع الصبيان ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب ، قال : فجاء فحطأني حطأة ، وقال : ( اذهب وادع لي معاوية ) ، قال : فجئت فقلت : هو يأكل ، قال : ثم ، قال لي : ( اذهب فادع لي معاوية ) ، قال : فجئت فقلت : هو يأكل ، فقال : ( لا أشبع الله بطنه )
ولا يُفهم من ظاهر هذا الحديث أكثر من أن ابن عباس شاهد معاوية يأكل فعاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، بل ليس فيه ما يدل على أن ابن عباس قد أخبر معاوية بأن رسول الله يريده.
وهذا الدعاء قال فيه الحافظ الذهبي كما في ( تذكرة الحفاظ ) : لعل هذه منقبة لمعاوية. اهـ
يعني الذهبي بذلك ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم سليم : أو ما علمت ما شارطت عليه ربي ؟ قلت : اللهم إنما أنا بشر ، فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا.
قال النووي في شرح صحيح مسلم: هذه الأحاديث مبينة ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على أمته والاعتناء بمصالحهم والاحتياط لهم والرغبة في كل ما ينفعهم، وهذه الرواية المذكورة آخرا تبين المراد بباقي الروايات المطلقة وأنه إنما يكون دعاؤه عليه رحمة وكفارة وزكاة ونحو ذلك إذا لم يكن أهلا للدعاء عليه والسب واللعن ونحوه وكان مسلما، وإلا فقد دعا صلى الله عليه وسلم على الكفار والمنافقين ولم يكن ذلك لهم رحمة. فإن قيل: كيف يدعو على من ليس هو بأهل للدعاء عليه أو يسبه أو يلعنه ونحو ذلك؟ فالجواب ما أجاب به العلماء ومختصره وجهان أحدهما: أن المراد ليس بأهل لذلك عند الله تعالى وفي باطن الأمر، ولكنه في الظاهر مستوجب له فيظهر له صلى الله عليه وسلم استحقاقه لذلك بأمارة شرعية ويكون في باطن الأمر ليس أهلا لذلك، وهو صلى الله عليه وسلم مأمور بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر. والثاني: أن ما وقع من سبه ودعائه ونحوه ليس بمقصود بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية؛ كقوله: تربت يمينك وعقرى حلقى، وفي هذا الحديث لا كبرت سنك، وفي حديث معاوية لا أشبع الله بطنه ونحو ذلك لا يقصدون بشيء من ذلك حقيقة الدعاء، فخاف صلى الله عليه وسلم أن يصادف شيء من ذلك إجابة فسأل ربه سبحانه وتعالى ورغب إليه في أن يجعل ذلك رحمة وكفارة وقربة وطهورا وأجرا، وإنما كان يقع هذا منه في النادر والشاذ من الأزمان، ولم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا ولا لعانا ولا منتقما لنفسه. وأما دعاؤه على معاوية أن لا يشبع حين تأخر ففيه الجوابان السابقان أحدهما: أنه جرى على اللسان بلا قصد، والثاني: أنه عقوبة له لتأخره وقد فهم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقا للدعاء عليه فلهذا أدخله في هذا الباب، وجعله غيره من مناقب معاوية لأنه في الحقيقة يصير دعاء له. اهـ
وقال الشيخ الألباني في السلسلة : وقد يستغل بعض الفرق هذا الحديث ليتخذوا منه مطعنا في معاوية رضي الله عنه ، وليس فيه ما يساعدهم على ذلك ، كيف وفيه أنه كان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ! ولذلك قال الحافظ ابن عساكر ( 16 / 349 / 2 ) " إنه أصح ما ورد في فضل معاوية " فالظاهر أن هذا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم غير مقصود ، بل هو ما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية؛ كقوله صلى الله عليه وسلم في بعض نسائه: " عقرى حلقى " و " تربت يمينك". ويمكن أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم بباعث البشرية التي أفصح عنها هو نفسه عليه السلام في أحاديث كثيرة متواترة . منها حديث عائشة رضي الله عنها قالت : دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان ، فكلماه بشيء لا أدري ما هو فأغضباه ، فلعنهما وسبهما ، فلما خرجا قلت : يا رسول الله؛ من أصاب من الخير شيئا ما أصابه هذان ؟ قال : وما ذاك ؟ قالت : قلت : لعنتهما وسببتهما ، قال : " أو ما علمت ما شارطت عليه ربي ؟ قلت : اللهم إنما أنا بشر ، فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا . اهـ
والله أعلم.