الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن الاستماع إلى حديث الجيران وتصويرهم لا يجوز ، وهو من التجسس المحرم، ولذلك لا يجوز لجيرانكم التجسس عليكم، والاستماع إلى ما تكرهون الاستماع إليه من حديثكم؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ، وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ، صُبَّ فِي أُذُنِهِ الآنُكُ يَوْمَ القِيَامَةِ. رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته. رواه أحمد وصححه الأرناؤوط.
كما لا يجوز لكم أنتم أن تتهموا جيرانكم، أو تظنوا بهم ظن السوء من غير بينة؛ فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ {الحجرات:12}. وقال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.
أما عن الشهادة عليكم على النحو الذي ذكرته فهي محل اختلاف بين أهل العلم، ومذهب الأكثر قبولها إذا كنتم تجحدون حق الغير علانية وتقرون به سرا.
جاء في منح الجليل شرح مختصر خليل لمحمد عليش المالكي عند قوله:"(بِخِلَافِ الْحِرْصِ عَلَى التَّحَمُّلِ) لِلشَّهَادَةِ فَلَا يُقْدَحُ فِيهَا (كَالْمُخْتَفِي) ..أَيْ الْمُتَوَارِي عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ الَّذِي يُقِرُّ بِمَا عَلَيْهِ سِرًّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ. وَيُنْكِرُهُ إذَا حَضَرَهُ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ؛ فَإِذَا اخْتَفَى مِنْهُ عَدْلَانِ أَوْ سَمِعَا إقْرَارَهُ لِصَاحِبِهِ فِي الْخَلْوَةِ، وَضَبَطَاهُ وَشَهِدَا عَلَيْهِ بِهِ، فَالْمَشْهُورُ الْعَمَلُ بِشَهَادَتِهِمَا عِنْدَ الْإِمَامِ مَالِكٍ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ، وَلَا يَقْدَحُ فِيهِمَا حِرْصُهُمَا عَلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ.
وجاء في المغني لابن قدامة الحنبلي: (وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُسْتَخْفِي، إذَا كَانَ عَدْلًا) الْمُسْتَخْفِي: هُوَ الَّذِي يُخْفِي نَفْسَهُ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لِيَسْمَعَ إقْرَارَهُ، وَلَا يَعْلَمَ بِهِ، مِثْلُ مَنْ يَجْحَدُ الْحَقَّ عَلَانِيَةً، وَيُقِرُّ بِهِ سِرًّا، فَيَخْتَبِئُ شَاهِدَانِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَعْلَمُ بِهِمَا، لِيَسْمَعَا إقْرَارَهُ بِهِ، ثُمَّ يَشْهَدَا بِهِ، فَشَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةٌ، عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ. وَبِهَذَا قَالَ عَمْرو بْنُ حُرَيْثٍ. وَقَالَ: كَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْخَائِنِ وَالْفَاجِرِ. وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ".
وأما التصوير وإثبات الحكم بمجرده عند القضاء فالظاهر -والله أعلم- أنه لا يصح لاحتمال التلاعب بالصور . ولكنه قرينة من القرائن التي يمكن أن يستعين بها أهل القضاء والخبرة على الوصول إلى الحقيقة. وإذا علمت هذا، وأن هذه البينات محل نظر في قبولها من عدمه، فمرد الأمر إلى القضاء فهو الذي يفصل في مسائل الخلاف.
والله أعلم.