الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن المعلوم عند المسلم أن بر الوالدين واجب، وأن عقوقهما من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب التي حذر الله عز وجل منها في محكم كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن التشاجر مع الأب, ورفع الصوت عليه من العقوق المحرم.
وإذا حدث لأحد المتخاصمين شيء بسبب الخصام، فإن كان الآخر يعلم أن صاحبه ـ خصمه ـ عصبي المزاج، أو حاد الطبع, ويتأثر بالخصام لشدة غضبه، أو ارتفاع ضغطه, وتعمد التشاجر معه، أو قصد ضرره، فلا شك أنه آثم ومؤاخذ عند الله تعالى، وهل عليه الدية والكفارة؟ لم نجد من أهل العلم من نص على هذه المسألة، إلا إذا خرجناها على ضمان العائن، فإن أهل العلم نصوا على تضمين من عرف أنه عائن، جاء في الفواكه الدواني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني: ومن عرف أنه معيان, وأنه كلما ينظر إلى شيء يصيبه، فإنه يضمن كل ما أتلفه.
ولكن هذا في حق من عرف أنه معيان، أما المخاصِم: فلا يمكن القطع بأنه هو سبب الإصابة؛ ولذلك فإن الذي يظهر لنا ـ والله أعلم ـ أنه لا دية ولا كفارة عليه في ظاهر الشرع, خاصة إذا لم يكن يقصد ضرر خصمه؛ لأنه لم يباشر ولم يتسبب، وإنما حدث ما حدث بسبب شيء عند المصاب، أو تفاعلات داخلية خاصة به, ولا دخل لغيره فيها، ولا يمكن القطع بأن المتشاجر مع المصاب هو السبب، ومن المعلوم عند أهل العلم أن الذمة لا تعمر إلا باليقين، وأنَّ الْحُكْمَ - كما قال الحافظ في الفتح نقلًا عن النووي -: إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُنْضَبِطٍ عَامٍّ, دُونَ مَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، مِمَّا لَا انْضِبَاطَ لَهُ.
وقال العلوي في النوازل: فمن تصدى للإفتاء فليحجم عن الإقدام على إلزام الضمان إلا بصريح، أو ظاهر، وإلا وجب عليه التمسك بالأصل الذي هو براءة الذمة.
ولهذا قلنا: إن المتخاصمين لا يضمن أحدهما ما يحصل للآخر بسبب الخصام والغضب، وإذا كان الخصام أو التشاجر في حق أو أمر مشروع، فإنه لا ضمان قطعًا أيضًا، كما قال ميارة في التكميل:
وكل من فعل ما يجوز له فنشأ الهلاك عن ما فعله
أو تلف المال فلا يضمن ما آلَ له الأمرُ وفاقًا عُلما.
والله أعلم.