الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فليت الأخت السائلة ذكرت لنا سبب منع الوالدة لها من صلة أولئك المشار إليهم بالعلم والإيمان، حتى نعلم هل لها غرض صحيح في منعها أم لا؟
والذي يمكننا قوله على سبيل الإجمال أنه إذا كانت الوالدة منعت بنتها من صحبتهم لأعيانهم وليس لدينهم واستقامتهم، فإنه يمكنها أن تصاحب غيرهم من المستقيمين، وتلزمها طاعتها؛ إذ قد يكون لها غرض صحيح في منعها من صحبتهم، فلم تأمرها بمعصية. وطاعتها في عدم صُحبتهم لا تمنع من إعطائهم الحقوق العامة للمسلم على أخيه المسلم، والتي بينها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ. متفق عليه. وفي لفظ لمسلم: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ. قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ.
وأما إذا أمرتها بعدم صحبتهم لدينهم واستقامتهم، فإنه لا يلزمها طاعتها؛ لأنه ليس لها غرض صحيح في المنع، وصحبة الأخيار مستحبة.
جاء في الموسوعة الفقهية: تُسَنُّ زِيَارَةُ الصَّالِحِينَ وَالإْخْوَانِ، وَالأْصْدِقَاءِ وَالْجِيرَانِ، وَالأْقَارِبِ وَصِلَتُهُمْ ... اهــ.
وإذا كانت زيارتهم وصلتهم مستحبة، فقد قدمنا في الفتوى رقم: 121991 أنه لا يلزم طاعة الوالد إذا نهى عن أمر مستحب، وكان نهيه ناشئا عن هوى وصد عن خير لغير قصد معتبر، وليس له فيه غرض صحيح.
وقد سئل ابن حجر الهيتمي الشافعي – كما في الفتاوى الفقهية الكبرى – عن رَجُلٍ له وَلَدٌ عَاقِلٌ، بَالِغٌ، رَشِيدٌ فَأَرَادَ الْوَلَدُ التَّرَدُّدَ إلَى الْفُقَهَاءِ لِقِرَاءَةِ الْعِلْمِ، وَاسْتِعَارَةِ الْكُتُبِ وَنَحْوِ ذلك مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي عنه طَالِبُ الْعِلْمِ، وَكَذَا الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِ، أو زِيَارَةِ الصَّالِحِينَ أو نَحْوِ ذلك من الْقُرْبِ، فَمَنَعَهُ الْوَالِدُ من ذلك وَأَمَرَهُ بِالْقُعُودِ في الْبَيْتِ، وَعَلَّلَ ذلك بِأَنَّهُ يَخْشَى عليه من صُحْبَةِ الْأَشْرَارِ، وَالْوَلَدُ لَا يَرْتَابُ في حَالِهِ أَنَّهُ يَكْرَهُ ذلك وَيَحْتَرِزُ منه. فَهَلْ لِلْوَلَدِ ذلك أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: إذَا ثَبَتَ رُشْدُ الْوَلَدِ الذي هو صَلَاحُ الدِّينِ وَالْمَالِ مَعًا، لم يَكُنْ لِلْأَبِ مَنْعِهِ من السَّعْيِ فِيمَا يَنْفَعُهُ دِينًا أو دُنْيَا، وَلَا عِبْرَةَ بِرِيبَةٍ يَتَخَيَّلُهَا الْأَبُ مع الْعِلْمِ بِصَلَاحِ دِينِ وَلَدِهِ، وَكَمَالِ عَقْلِهِ. نعم إنْ كان في الْبَلَدِ فَجَرَةٌ يَأْخُذُونَ من خَرَجَ من الْمُرْدِ إلَى السُّوقِ -مَثَلًا- قَهْرًا عليهم، تَأَكَّدَ على الْوَلَدِ إذَا كان كَذَلِكَ أَنْ لَا يَخْرُجَ حِينَئِذٍ وَحْدَهُ؛ لِنَهْيِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن الْوُقُوعِ في مَوَاطِنِ التُّهَمِ .... وَحَيْثُ نَشَأَ أَمْرُ الْوَالِدِ أو نَهْيُهُ عن مُجَرَّدِ الْحُمْقِ لم يُلْتَفَتْ إلَيْهِ أَخْذًا مِمَّا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ في أَمْرِهِ لِوَلَدِهِ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ ...
وَمَعَ ذلك كُلِّهِ فَلْيَحْتَرِزْ الْوَلَدُ من مُخَالَفَةِ وَالِدِهِ، فَلَا يَقْدُمُ عليها اغْتِرَارًا بِظَوَاهِرِ ما ذَكَرْنَا، بَلْ عليه التَّحَرِّي التَّامُّ في ذلك، وَالرُّجُوعُ لِمَنْ يَثِقُ بِدِينِهِمْ وَكَمَالِ عَقْلِهِمْ. فَإِنْ رَأَوْا لِلْوَالِدِ عُذْرًا صَحِيحًا في الْأَمْرِ أو النَّهْيِ، وَجَبَتْ عليه طَاعَتُهُ، وَإِنْ لم يَرَوْا له عُذْرًا صَحِيحًا لم يَلْزَمْهُ طَاعَتُهُ، لَكِنَّهَا تَتَأَكَّدُ عليه حَيْثُ لم يَتَرَتَّبْ عليها نَقْصُ دِينِ الْوَلَدِ وَعِلْمِهِ، أو تَعَلُّمِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مُخَالِفَةَ الْوَالِدِ خَطِيرَةٌ جِدًّا، فَلَا يُقْدِمْ عليها إلَّا بَعْدَ إيضَاحِ السَّبَبِ الْمُجَوِّزِ لها عِنْدَ ذَوِي الْكَمَالِ، وقد عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْته حَدُّ الْبِرِّ وَالْعُقُوقِ. فَتَأَمَّلْ ذلك فإنه مُهِمٌّ. اهــ.
والله تعالى أعلم