الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد بينا في الفتويين: 4138، 14116. بعض محاذير الرسم لذوات الأرواح، وتأكيد تحريمه، ودخوله في التصوير المحرم.
وأما إذا كانت هناك حاجة تعليمية تدعو لذلك، فينبغي الاقتصار على رسم بعض الأعضاء، والاستغناء بذلك عن رسم الجميع، فقد رخص جمع من أهل العلم في رسم جزء من الجسم كالرأس وحده، وكالبطن، أو الصدر. واستدلوا لذلك: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة ـ رضي الله عنها ـ بتقطيع الثوب الذي كان عندها وفيه تصاوير، فقطعته فجعلته وسادتين يجلس عليهما النبي صلى الله عليه وسلم. والحديث في الصحيحين وغيرهما.
وفي المسند والسنن من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي في البيت فليقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فيجعل وسادتين منبوذتين توطآن، ومر بالكلب فليخرج. والحديث صحيح.
وقال البهوتي ـ رحمه الله ـ في شرح الإقناع: ويحرم تعليق ما فيه صورة حيوان، وستر الجدر به وتصويره، وتقدم في ستر العورة، فإن قطع إنسان رأس الصورة فلا كراهة. قال ابن عباس: الصورة الرأس، فإذا قطع فليس بصورة ـ أو قطع منها ـ أي الصورة ـ ما لا تبقى الحياة بعد ذهابه فهو كقطع الرأس كصدرها، أو وبطنها، أو صورها بلا رأس، أو بلا صدر، أو بلا بطن، أو جعل لها رأسا منفصلاً عن بدنها، أو صور رأساً بلا بدن فلا كراهة؛ لأن ذلك لم يدخل في النهي، وإن كان الذاهب يبقى الحيوان بعده كالعين واليد والرجل حرم تعليق ما هي فيه، وستر الجدر به، وتصويره؛ لدخوله تحت النهي. انتهى.
وقال الفقيه ابن حجر في التحفة: وخرج بحيوان تصوير ما لا رأس له فيحل، خلافاً لما شذ به المتولي، وكفقد الرأس فقد ما لا حياة بدونه، نعم يظهر أنه لا يضر فقد الأعضاء الباطنة كالكبد وغيره؛ لأن الملحظ المحاكاة وهي حاصلة بدون ذلك. انتهى.
وبهذا تعلم أن رسمك صورة لجزء لا تستقيم الحياة به كالوجه فقط ليس محرماً، وأما مجرد نقص الفم فقط فلا يعد نقصا لا تمكن الحياة بدونه، فهو كنقص العين واليد مما صرح العلماء بمنع تصوير الحيوان الناقص ذلك منه، كما يدل له كلام البهوتي السابق.
وأما عمل بعض القصص المصورة، والرسوم المتحركة للصغار فإن كان لغرض معتبر كتعليم الأطفال، فلا حرج فيه؛ لأن جمهور أهل العلم استثنى من حرمة التصوير والتماثيل ما كان للأطفال لغاية تعليمهم ما يصلحهم، ويأنسون به. أو كان للدعوة والفضيلة وتعليم القيم الإسلامية ونحوه؛ لما ثبت في الحديث عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها- أنها كانت تلعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وكانت تأتيني صواحبي، فكن ينقمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسربهن إلي. انتهى.
وفي رواية لمسلم عنها أنها قالت: كنت ألعب بالبنات في بيته. انتهى.
قال النووي: يستثنى من منع تصوير ما له ظل، ومن اتخاذه، لعب البنات؛ لما ورد من الرخصة في ذلك. اهـ.
وقال القاضي عياض: فيه جواز اللعب بهن، قال: وهن مخصوصات من الصور المنهي عنها لهذا الحديث؛ ولما فيه من تدريب النساء في صغرهن لأمر أنفسهن، وبيوتهن، وأولادهن، قال: ومذهب جمهور العلماء جواز اللعب بهن، وقالت طائفة: هو منسوخ بالنهي عن الصور. اهـ.
وفي الموسوعة الفقهية ـ أيضا: ثَامِنًا: التَّصْوِيرُ لِلْمَصْلَحَةِ كَالتَّعْلِيمِ وَغَيْرِهِ: لَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ تَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا، عَدَا مَا ذَكَرُوهُ فِي لُعَبِ الأَطْفَالِ: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي اسْتِثْنَائِهَا مِنَ التَّحْرِيمِ الْعَامِّ هُوَ تَدْرِيبُ الْبَنَاتِ عَلَى تَرْبِيَةِ الأَطْفَالِ كَمَا قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، أَوِ التَّدْرِيبُ وَاسْتِئْنَاسُ الأَطْفَالِ، وَزِيَادَةُ فَرَحِهِمْ لِمَصْلَحَةِ تَحْسِينِ النُّمُوِّ، كَمَا قَالَ الْحَلِيمِيُّ، وَأَنَّ صِنَاعَةَ الصُّوَرِ أبِيحَتْ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ، مَعَ قِيَامِ سَبَبِ التَّحْرِيمِ، وَهِيَ كَوْنُهَا تَمَاثِيلَ لِذَوَاتِ الأَرْوَاحِ. وَالتَّصْوِيرُ بِقَصْدِ التَّعْلِيمِ وَالتَّدْرِيبِ ونَحْوُهُمَا لا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ. انتهى.
وليس من شك في أن أي مقصد من هذه المقاصد أمكن تحصيله دون تصوير ما له روح، فإن الأولى فيه أن يتجنب ما له روح. وإن لم يمكن تحصيله إلا بتصوير ما له روح، فقد علمت ما في ذلك من التفصيل، ومنه يتبين حكم اللعبة التي تشجع على الصلاة؛ إذ لا شك أن ترغيب الناس في الطاعات أمر مهم، وأن الصلاة هي أهم ما ينبغي أن يتعلم ويدعى إليه.
والله أعلم.