الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فننبه بداية إلى ما سبق أن ذكرنا من فضل عمر ـ رضي الله عنه وموافقته ـ للوحي في الفتويين رقم: 62984، ورقم: 102220.
ثم إنه ليس فيما ذكر تراجع عن الحكم ولا عن الخبر المبشر به، ولكنه من باب تأخير الإخبار بالحكم مراعاة للمصلحة في ذلك، فقد ذكر أهل العلم أن العالم يجوز له أن يسكت عن ذكر أمر ما إذا خيف من ذكره حصول مفسدة تربو على ذكره، قال ابن القيم في إعلام الموقعين: فمن سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار ـ هذا إذا أمن المفتي غائلة الفتوى، فإن لم يأمن غائلتها وخاف من ترتب شر أكثر من الإمساك عنها، أمسك عنها ترجيحا لدفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وقد أمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن نقض الكعبة وإعادتها على قواعد إبراهيم لأجل حدثان عهد قريش بالإسلام، وأن ذلك ربما نفرهم عنه بعد الدخول فيه، وكذلك إن كان عقل السائل لا يحتمل الجواب عما سأل عنه، وخاف المسئول أن يكون فتنة له أمسك عن جوابه. انتهى.
وقد عقد الإمام البخاري في صحيحه: باب: من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا ـ وأسند فيه أيضا حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، قال: ألا أبشر الناس؟ قال: لا، إني أخاف أن يتكلوا. اهـ.
وأسند تحته قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟.
قال ابن حجر: زاد آدم بن أبي إياس في كتاب العلم .. في آخره: ودعوا ما ينكرون، أي: يشتبه عليهم فهمه.. وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة. انتهـى.
وقد أشار العباس إلى استثناء الإذخر من التحريم فأقره النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها، فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم؟ فقال: إلا الإذخر.
وقد ذكر النووي في شرح الحديث: أنه يستنبط منه إشارة بعض الأتباع على المتبوع بما يراه مصلحة، وموافقة المتبوع له إذا رآه مصلحة ورجوعه عما أمر به بسببه. اهـ.
ويدل لاعتبار رأي عمر في هذا وأصوبيته ما روى البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار، قال: يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذاً يتكلوا، وأخبر بها معاذ عند موته تأثماً.
وقد ذكر ابن حجر في الفتح: أنه روى البزار بإسناد حسن من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ في هذه القصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لمعاذ في التبشير، فلقيه عمر فقال: لا تعجل، ثم دخل فقال: يا نبي الله أنت أفضل رأياً إن الناس إذا سمعوا ذلك اتكلوا عليها فرده ـ قال: وهذا معدود من موافقات عمر، وفيه جواز الاجتهاد بحضرته صلى الله عليه وسلم. اهـ.
والله أعلم.