الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن قوله صلى الله عليه وسلم: حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ـ الحديث، معناه أن ما حصل لك من المقدور من خير أو شر فقد سبق في علم الله وكتابه أنه يصيبك ويحصل لك، ففي شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي شارحا قول الطحاوي: وَمَا أَخْطَأَ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَمَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ ـ هَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَقْدُورَ كائن لا محالة ولقد أحسن القائل حيث يقول: مَا قَضَى اللَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَة ... وَالشَّقِيُّ الْجَهُولُ مَنْ لَامَ حَالَهْ. انتهى.
فتبين أن ما يصيب العبد ولا يمكن أن يخطئه هو ما وقع من قدر الله فأصاب العبد، وليس الكلام هنا فيما قد يتغير من القدر قبل وقوع المقدور، فهذا شيء آخر ولا يكون إلا في القدر المعلق، قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في فتح الباري: المحو والإثبات بالنسبة لما في علم المَلَك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه البتة، ويقال له: القضاء المبرم، ويقال للأول: القضاء المعلق. انتهى.
وراجع هذه الفتوى برقم: 175281.
وأما كون الرب سبحانه قد علم أهل الجنة وأهل النار قبل خلق الخلق، ومضى قضاؤه وقدره بذلك، وأن ذلك يتنافى مع اختيار العبد لطريق الجنة والنار، فهذا السؤال قد استشكله بعض الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ إذ إن مؤدى هذا الكلام الاتكال في العمل على ما قد قدر وكتب، لأنه لا مفر له، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ، فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الأَرْضَ، فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا، وَنَدَعُ العَمَلَ؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى {سورة الليل} الآيات. وهذا لفظ البخاري.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في التبيان في أقسام القرآن: وهذا الذي أرشد إليه النبي هو الذي فطر الله عليه عباده، بل الحيوان البهيم، بل مصالح الدنيا وعمارتها بذلك فلو قال كل أحد إن قدر لي كذا وكذا فلا بد أن أناله وإن لم يقدر فلا سبيل إلى نيله فلا أسعى ولا أتحرك لعد من السفهاء الجهال ولم يمكنه طرد ذلك أبداً وإن أتى به في أمر معين فهل يمكنه أن يطرد ذلك في مصالحه جميعها من طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه وهروبه مما يضاد بقاءه وينافي مصالحه أم يجد نفسه غير منفكة البتة عن قول النبي: اعملوا فكل ميسر لما خلق له ـ فإذا كان هذا في مصالح الدنيا وأسباب منافعها فما الموجب لتعطيله في مصالح الآخرة وأسباب السعادة والفلاح فيها ورب الدنيا والآخرة واحد؟ فكيف يعطل ذلك في شرع الرب وأمره ونهيه ويستعمل في إرادة العبد وأغراضه وشهواته؟ وهل هذا إلا محض الظلم والجهل؟ والإنسان ظلوم جهول، ظلوم لنفسه جهول بربه، فهذا الذي أرشد إليه النبي وتلا عنده هاتين الآيتين موافقاً لما جعله الله في عقول العقلاء وركب عليه فطر الخلائق حتى الحيوان البهيم وأرسل به جميع رسله وأنزل به جميع كتبه ولو اتكل العبد على القدر ولم يعمل لتعطلت الشرائع وتعطلت مصالح العالم وفسد أمر الدنيا والدين. انتهى.
وراجع الفتوى رقم: 179397.
وأما الشبهة التي حصّلتها من أحد مواقع الإلحاد، ومحصلها: أن القول بأن الله يعلم أهل النار قبل خلق الخلق، وهذا يعني أن الله يحب تعذيبهم! فهذا في بديهي العقل غير لازم أبدا، وهل نقول لمعلم حاذق في مهنته، عالم بمستوى تعليم تلاميذته، إذا قال: إن التلميذ الفلاني سيرسب في الامتحانات لضعفه وإهماله، هل نقول له مع هذا التقييم: إن المعلم يحب أن يرسب هذا التلميذ؟! هذا ما لا يقوله عاقل في حق بشر قد يخطئ في تقييم وقد يصيب، فكيف يقال ذلك في علام الغيوب؟ ولله المثل الأعلى.
وأخيرا ننصحك بالبعد عن هذه المواقع الإلحادية التي تبث الشبهات وتشكك المؤمن في عقيدته وإيمانه، فلا يجوز النظر فيها إلا لمتمكن يريد غرضا صحيحا كالاطلاع عليها لرد شبهاتهم، وراجع هذه الفتوى برقم: 47986.
والله أعلم.