الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالأكمل للمؤمن، والأقرب للخلق الفاضل، أن يصبر ويحلم، ويقابل الإساءة بالإحسان، ففي ذلك من الأجور ما لا يعلم قدره إلا الله، مع أنه سبب في تحويل الكراهة إلى محبة؛ قال الله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {فصلت:34}.
ومن ناحية أخرى فإن ذلك يستجلب نصرة الله ومعونته، فقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال صلى الله عليه وسلم: لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك. رواه مسلم.
وللمظلوم كذلك مقابلة السيئة بمثلها دون تجاوز. ولا شك أن المقام الأول هو أعلى المقامات، وأفضل الخيارات؛ لما جاء فيه من الأجر والثواب، الذي سبق بيانه؛ وراجع الفتوى رقم: 54580.
وأما عن كيفية تعلم حسن الخلق واكتسابه، فيكون بمجاهدة النفس، وحملها على الأخلاق الفاضلة، مع صحبة أهل الخلق الحسن وسؤال الله تعالى، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله تعالى حسن الخلق؛ فروى أحمد في المسند من حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم كما حسنت خلقي، فحسن خلقي. وفي دعاء الاستفتاح الطويل الذي خرجه مسلم من حديث علي ـ رضي الله عنه ـ أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت. وفي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّقَاقِ، وَالنِّفَاقِ، وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ.
وينبغي للإنسان أن يبتعد عن مسايرة الناس وتقليدهم في الأخلاق الذميمة؛ فقد روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تكونوا إمعه تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا.
وأما عن الدعوة فالأصل فيها اللين كما قال تعالى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا {طه:44}، وقال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ {آل عمران: 159}.
وقال معاوية بن الحكم السلمي وهو يشهد لأخلاقه صلى الله عليه وسلم، وحسن أسلوبه في التعليم: فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فو الله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني... رواه مسلم.
وعن أبي عبد الله الجدلي قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لم يكن فاحشا ولا متفحشا، ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وفي البخاري عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال: أجل، والله إنه لموصوف ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ـ وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق, ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.
وقد تستدعي الحكمة والحال الإغلاظ على الكفار، والشدة؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ {التوبة:123}، ولقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {التوبة:73}.
وكان صلى الله عليه وسلم يشتد عليهم عند الحاجة عملاً بما شرع له في ذلك، كقوله تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ {الزمر:64}، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم لقريش: إنما جئتكم بالذبح. وقول أبي بكر لعروة بن مسعود: امصص بظر اللات. رواهما أحمد وحسنهما الأرناؤوط.
والله أعلم.