الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فتربية الأطفال وتنشئتهم على طاعة الله تعالى من أهم الأمور، قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ {التحريم:6}.
ومما يعينك على ذلك الاجتهاد في الدعاء له بأن يصلحه الله تعالى، وأن تكون قدوة صالحة له، فإنه ينشأ على التأسي بأبويه والاقتداء بهما، واغرس في نفسه منذ الصغر مكارم الأخلاق ومحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واختر له شيخا صحيح المعتقد متين الديانة حسن التأديب، وحين يدرك حد الفهم فقص عليه من قصص الصالحين وأخبارهم لتغرس في قلبه محبتهم وتنشئه على الرغبة في الاقتداء بهم، يقول المحقق ابن القيم ـ رحمه الله ـ في بيان بعض ما يحتاج إليه في تربية الأطفال: وَمِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ الطِّفْل غَايَة الِاحْتِيَاج الاعتناء بِأَمْر خلقه، فَإِنَّهُ ينشأ على مَا عوده المربي فِي صغره من حرد وَغَضب ولجاج وعجلة وخفة مَعَ هَوَاهُ وطيش وحدة وجشع فيصعب عَلَيْهِ فِي كبره تلافي ذَلِك وَتصير هَذِه الْأَخْلَاق صِفَات وهيئات راسخة لَهُ فَلَو تحرز مِنْهَا غَايَة التَّحَرُّز فضحته وَلَا بُد يَوْمًا مَا، وَلِهَذَا تَجِد أَكثر النَّاس منحرفة أَخْلَاقهم وَذَلِكَ من قبل التربية الَّتِي نَشأ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ يجب أَن يتَجَنَّب الصَّبِي إِذا عقل مجَالِس اللَّهْو وَالْبَاطِل والغناء وَسَمَاع الْفُحْش والبدع ومنطق السوء، فَإِنَّهُ إِذا علق بسمعه عسر عَلَيْهِ مُفَارقَته فِي الْكبر وَعز على وليه استنقاذه مِنْهُ، فتغيير العوائد من أصعب الْأُمُور يحْتَاج صَاحبه إِلَى استجداد طبيعة ثَانِيَة، وَالْخُرُوج عَن حكم الطبيعة عسر جدا، وَيَنْبَغِي لوَلِيِّه أَن يجنبه الْأَخْذ من غَيره غَايَة التجنب، فَإِنَّهُ مَتى اعْتَادَ الْأَخْذ صَار لَهُ طبيعة وَنَشَأ بِأَن يَأْخُذ لَا بِأَن يُعْطي ويعوده الْبَذْل والإعطاء، وَإِذا أَرَادَ الْوَلِيّ أَن يُعْطي شَيْئا أعطَاهُ إِيَّاه على يَده ليذوق حلاوة الْإِعْطَاء، ويجنبه الْكَذِب والخيانة أعظم مِمَّا يجنبه السم الناقع فَإِنَّهُ مَتى سهل لَهُ سَبِيل الْكَذِب والخيانة أفسد عَلَيْهِ سَعَادَة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَحرمه كل خير، ويجنبه الكسل والبطالة والدعة والراحة، بل يَأْخُذهُ بأضدادها وَلَا يريحه إِلَّا بِمَا يجم نَفسه وبدنه للشغل، فَإِن الكسل والبطالة عواقب سوء ومغبة نَدم وللجد والتعب عواقب حميدة، إِمَّا فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا فِي العقبى، وَإِمَّا فيهمَا، فأروح النَّاس أتعب النَّاس، وأتعب النَّاس أروح النَّاس، فالسيادة فِي الدُّنْيَا والسعادة فِي العقبى لَا يُوصل إِلَيْهَا إِلَّا على جسر من التَّعَب... ويجنبه فضول الطَّعَام وَالْكَلَام والمنام ومخالطة الْأَنَام، فَإِن الخسارة فِي هَذِه الفضلات وَهِي تفوت على العَبْد خير دُنْيَاهُ وآخرته، ويجنبه مضار الشَّهَوَات الْمُتَعَلّقَة بالبطن والفرج غَايَة التجنب، فَإِن تَمْكِينه من أَسبَابهَا والفسح لَهُ فِيهَا يُفْسِدهُ فَسَادًا يعز عَلَيْهِ بعده صَلَاحه، وَكم مِمَّن أَشْقَى وَلَده وفلذة كبده فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة بإهماله وَترك تأديبه وإعانته لَهُ على شهواته وَيَزْعُم أَنه يُكرمهُ وَقد أهانه وَأَنه يرحمه وَقد ظلمه وَحرمه، ففاته انتفاعه بولده وفوت عَلَيْهِ حَظه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَإِذا اعْتبرت الْفساد فِي الْأَوْلَاد رَأَيْت عامته من قبل الْآبَاء. انتهى.
وأما ما يجب تعليمه إياه: فهو ما تصح به عقيدته وعبادته، وهذا القدر يسير جدا، ثم انظر بعد ذلك إلى ميوله وتوجهاته فما كان مستعدا له متهيئًا لفعله فاشغله به ليتم انتفاعه بذلك وانتفاع الأمة به، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ وما أحسن ما قال: وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يعْتَمد حَال الصَّبِي وَمَا هُوَ مستعد لَهُ من الْأَعْمَال ومهيأ لَهُ مِنْهَا، فَيعلم أَنه مَخْلُوق لَهُ فَلَا يحملهُ على غَيره مَا كَانَ مَأْذُونا فِيهِ شرعا، فَإِنَّهُ إِن حمله على غير مَا هُوَ مستعد لَهُ لم يفلح فِيهِ وَفَاته مَا هُوَ مُهَيَّأ لَهُ، فَإِذا رَآهُ حسن الْفَهم صَحِيح الْإِدْرَاك جيد الْحِفْظ واعيا، فَهَذِهِ من عَلَامَات قبُوله وتهيئه للْعلم لينقشه فِي لوح قلبه مَا دَامَ خَالِيا فَإِنَّهُ يتَمَكَّن فِيهِ ويستقر ويزكو مَعَه، وَإِن رَآهُ بِخِلَاف ذَلِك من كل وَجه وَهُوَ مستعد للفروسية وأسبابها من الرّكُوب وَالرَّمْي واللعب بِالرُّمْحِ وَأَنه لَا نَفاذ لَهُ فِي الْعلم وَلم يخلق لَهُ مكنه من أَسبَاب الفروسية والتمرن عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَنْفَع لَهُ وللمسلمين، وَإِن رَآهُ بِخِلَاف ذَلِك وَأَنه لم يخلق لذَلِك وَرَأى عينه مَفْتُوحَة إِلَى صَنْعَة من الصَّنَائِع مستعدا لَهَا قَابلا لَهَا وَهِي صناعَة مُبَاحَة نافعة للنَّاس فليمكنه مِنْهَا، هَذَا كُله بعد تَعْلِيمه لَهُ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي دينه، فَإِن ذَلِك ميسر على كل أحد لتقوم حجَّة الله على العَبْد، فَإِن لَهُ على عباده الْحجَّة الْبَالِغَة كَمَا لَهُ عَلَيْهِم النِّعْمَة السابغة. انتهى.
ومن الكتب المفيدة جدا في هذا الباب كتاب مسؤولية الأب المسلم لعدنان با حارث، فانظره إن شئت.
والله أعلم.