الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد بينا كفر ساب الرب بالفتوى رقم: 117954، وأنه عليه التوبة.
وأما هذا الحرج - لا سيما إن دفعه إلى العمل، والاجتهاد حياء من الله - فهو مطلوب؛ قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه، وإن تاب منها وبكى عليها. وإني رأيت أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة، وكأنهم قد قطعوا على ذلك. وهذا أمر غائب، ثم لو غفرت بقي الخجل من فعلها. ويؤيد الخوف بعد التوبة أنه في الصحاح: أن الناس يأتون إلى آدم عليه السلام فيقول: اشفع لنا فيقول: ذنبي. وإلى نوح عليه السلام فيقول: ذنبي، وإلى إبراهيم، وإلى موسى، وإلى عيسى صلوات الله وسلامه عليهم. فهؤلاء إذا اعتبرت ذنوبهم لم يكن أكثرها ذنوباً حقيقية. ثم إن كانت فقد تابوا منها واعتذروا، وهم بعد على خوف منها. ثم إن الخجل بعد قبول التوبة لا يرتفع، وما أحسن ما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: واسوأتاه منك وإن عفوت. فأف والله لمختار الذنوب ومؤثر لذة لحظة تبقى حسرة لا تزول عن قلب المؤمن وإن غفر له. فالحذر الحذر من كل ما يوجب خجلاً. وهذا أمر قل أن ينظر فيه تائب أو زاهد، لأنه يرى أن العفو قد غمر الذنب بالتوبة الصادقة. وما ذكرته يوجب دوام الحذر والخجل. انتهى.
وراجع: مشاهد الخلق في المعصية من مدارج السالكين لابن القيم.
وقد بينا بالفتويين: 139572، 35971 . أن من تاب توبة نصوحا فلا يعاقب على ذنبه بعد التوبة ، وهل يسأل عنه؟ اختلف العلماء في ذلك:
قال القرطبي في التذكرة بعد ذكر حديث: فإني قد سترتها عليك في الدنيا (أي لم أفضحك بها فيها)، وأنا أغفرها لك اليوم: ثم قيل هذه الذنوب تاب منها. كما ذكره أبو نعيم عن الأوزاعي عن هلال بن سعد قال: إن الله يغفر الذنوب، ولكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يوقفه عليها يوم القيامة، وإن تاب منها. قال المؤلف -القرطبي نفسه-: ولا يعارض هذا ما في التنزيل والحديث من أن السيئات تبدل بالتوبة حسنات، فلعل ذلك يكون بعد ما يوقفه عليها. والله أعلم.
وقال ابن رجب في جامعه: فقوله صلى الله عليه وسلم: «أتبع السيئة الحسنة تمحها» ظاهره أن السيئات تمحى بالحسنات، وقد تقدم ذكر الآثار التي فيها أن السيئة تمحى من صحف الملائكة بالحسنة إذا عملت بعدها. قال عطية العوفي: بلغني أنه من بكى على خطيئة محيت عنه، وكتبت له حسنة. وعن عبد الله بن عمرو قال: من ذكر خطيئة عملها، فوجل قلبه منها، فاستغفر الله عز وجل لم يحبسها شيء حتى يمحوها عنه الرحمن. وقال بشر بن الحارث: بلغني عن الفضيل بن عياض قال: بكاء النهار يمحو ذنوب العلانية، وبكاء الليل يمحو ذنوب السر. وقد ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟» الحديث. وقالت طائفة: لا تمحى الذنوب من صحائف الأعمال بتوبة ولا غيرها، بل لا بد أن يوقف عليها صاحبها ويقرأها يوم القيامة، واستدلوا بقوله تعالى: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} [الكهف: 49] ، وفي الاستدلال بهذه الآية نظر، لأنه إنما ذكر فيها حال المجرمين، وهم أهل الجرائم والذنوب العظيمة، فلا يدخل فيهم المؤمنون التائبون من ذنوبهم، أو المغمورة ذنوبهم بحسناتهم. وأظهر من هذا الاستدلال بقوله: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره - ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 7 - 8]، وقد ذكر بعض المفسرين أن هذا القول هو الصحيح عند المحققين، وقد روي هذا القول عن الحسن البصري، وبلال بن سعد الدمشقي، قال الحسن: فالعبد يذنب، ثم يتوب، ويستغفر: يغفر له، ولكن لا يمحاه من كتابه دون أن يقفه عليه، ثم يسأله عنه، ثم بكى الحسن بكاء شديدا، وقال: ولو لم نبك إلا للحياء من ذلك المقام، لكان ينبغي لنا أن نبكي. وقال بلال بن سعد: إن الله يغفر الذنوب، ولكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يوقفه عليها يوم القيامة وإن تاب. وقال أبو هريرة: يدني الله العبد يوم القيامة، فيضع عليه كنفه، فيستره من الخلائق كلها، ويدفع إليه كتابه في ذلك الستر، فيقول: اقرأ يا ابن آدم كتابك، فيقرأ، فيمر بالحسنة فيبيض لها وجهه، ويسر بها قلبه، فيقول الله: أتعرف يا عبدي؟ فيقول: نعم، فيقول: إني قبلتها منك، فيسجد، فيقول: ارفع رأسك وعد في كتابك، فيمر بالسيئة، فيسود لها وجهه، ويوجل لها قلبه، وترتعد منها فرائصه، ويأخذه من الحياء من ربه ما لا يعلمه غيره، فيقول: أتعرف يا عبدي؟ فيقول: نعم، يا رب، فيقول: إني قد غفرتها لك، فيسجد، فلا يرى منه الخلائق إلا السجود حتى ينادي بعضهم بعضا: طوبى لهذا العبد الذي لم يعص الله قط، ولا يدرون ما قد لقي فيما بينه وبين ربه مما قد وقفه عليه. وقال أبو عثمان النهدي عن سلمان: يعطى الرجل صحيفته يوم القيامة، فيقرأ أعلاها، فإذا سيئاته، فإذا كاد يسوء ظنه، نظر في أسفلها، فإذا حسناته، ثم نظر في أعلاها، فإذا هي قد بدلت حسنات. وروي عن أبي عثمان، عن ابن مسعود وعن أبي عثمان من قوله وهو أصح. وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن بعض أصحاب معاذ بن جبل قال: يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة أصناف: المتقين، ثم الشاكرين، ثم الخائفين، ثم أصحاب اليمين. قيل: لم سموا أصحاب اليمين؟ قال: لأنهم عملوا الحسنات والسيئات، فأعطوا كتبهم بأيمانهم، فقرؤوا سيئاتهم حرفا حرفا قالوا: يا ربنا هذه سيئاتنا فأين حسناتنا؟ فعند ذلك محا الله السيئات، وجعلها حسنات، فعند ذلك قالوا: {هاؤم اقرءوا كتابيه} [الحاقة: 19] فهم أكثر أهل الجنة. وأهل هذا القول قد يحملون أحاديث محو السيئات بالحسنات على محو عقوباتها دون محو كتابتها من الصحف. والله أعلم.
وراجعي للفائدة الفتوى رقم: 207649. والفتوى رقم: 197169 وهي حول رؤية المؤمنين ربَهم في الجنة بكرة وعشياً.
وليس في الجنة حزن؛ قال تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ {فاطر:34-35 }.
وراجعي الفتوى رقم: 247717.
فلو فرض أنه تذكر ذنوبه فيها فلا يحزن، كما بينا بالفتوى رقم: 177825.
والله أعلم.