الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة على دين قومه قط، بل هو مبرأ من ذلك صلوات الله وسلامه عليه، وقد ولد مسلماً مؤمناً، قال العلامة السفاريني في لوامع الأنوار البهية: لَمْ يَكُنْ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الْبَعْثَةِ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، بَلْ وُلِدَ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا كَمَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ، قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَمْ يَكُنْ صلى الله عليه وسلم عَلَى دِينٍ سِوَى الْإِسْلَامِ، وَلَا كَانَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ قَطُّ، بَلْ وُلِدَ نَبِيُّنَا مُؤْمِنًا صَالِحًا عَلَى مَا كَتَبَهُ اللَّهُ وَعَلِمَهُ مِنْ حَالِهِ. انْتَهَى.
وقال الحافظ ابن رجب في كتابه لطائف المعارف: وقد استدل الإمام أحمد -رضي الله عنه- بحديث العرباض بن سارية السلمي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم -عليه السلام- لمنجدل في طينته. رواه الإمام أحمد.
وروي معناه من حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه-، ومن وجوه أخرى مرسلة، وخرج الحاكم أيضاً حديث العرباض، وقال: صحيح الإسناد - على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل على التوحيد مذ نشأ وردَّ بذلك على من زعم غير ذلك.
وقال صاحب لوامع الأنوار البهية: قَالَ الْحَافِظُ: بَلْ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وُلِدَ نَبِيًّا، فَإِنَّ نُبُوَّتَهُ وَجَبَتْ لَهُ مِنْ حِينِ أُخِذَ الْمِيثَاقُ، حَيْثُ اسْتُخْرِجَ مِنْ صُلْبِ آدَمَ فَكَانَ نَبِيًّا مِنْ حِينَئذٍ، لَكِنْ كَانَتْ مُدَّةُ خُرُوجِهِ إِلَى الدُّنْيَا مُتَأَخِّرَةً عَنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ نَبِيًّا قَبْلَ خُرُوجِهِ، كَمَنْ يُوَلَّى وِلَايَةً وَيُؤْمَرُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا فِي زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَحُكْمُ الْوِلَايَةِ ثَابِتٌ لَهُ مِنْ حِينِ وِلَايَتِهِ، وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ مُتَأَخِّرًا إِلَى حِينِ مَجِيءِ الْوَقْتِ.
قَالَ الْحَافِظُ: قَالَ حَنْبَلٌ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ رضي الله عنه: مَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ؟
قَالَ: هَذَا قَوْلُ سُوءٍ يَنْبَغِي لِصَاحِبِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنْ يُحْذَرَ كَلَامُهُ وَلَا يُجَالَسَ. قُلْتُ: إِنَّ جَارَنَا النَّاقِدَ أَبَا الْعَبَّاسِ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. قَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ وَأَيُّ شَيْءٍ أَبْقَى إِذَا زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عِيسَى عليه السلام: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]، ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رضي الله عنه-: مَاذَا يُحَدِّثُ النَّاسُ مِنَ الْكَلَامِ؟ هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْكَلَامِ مَنْ أَحَبَّ الْكَلَامَ لَمْ يُفْلِحْ، سُبْحَانَ اللَّهِ لِهَذَا الْقَوْلِ، وَاحْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِرُؤْيَا أُمِّهِ النُّورَ عِنْدَ وِلَادَتِهِ حَتَّى أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ قَالَ: وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَمَا وَلَدَتْ رَأَتْ ذَلِكَ!
وَقِيلَ وَقَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ كَانَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا مِنَ الْأَوْثَانِ، ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: احْذَرُوا الْكَلَامَ، فَإِنَّ أَصْحَابَ الْكَلَامِ لَا يَئُولُ أَمْرُهُمْ إِلَى خَيْرٍ. أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَمُرَادُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ الِاسْتِدْلَالُ بِتَقْدِيمِ الْبِشَارَةِ بِنُبُوَّتِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِ خُرُوجِهِ إِلَى الدُّنْيَا وَوِلَادَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ. انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ ابْنِ رَجَبٍ مُلَخَّصًا، وَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِنَصِّ الْإِمَامِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.
وقال الإمام القرطبي -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ [الشورى:52]. نقلاً عن القاضي عياض: والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته والتشكك في شيء من ذلك، وقد تعاضدت الأخبار والآثار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة، منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد والإيمان، بل على إشراق أنوار المعارف ونفحات ألطاف السعادة، ومن طالع سيرهم منذ صباهم إلى مبعثهم حقق ذلك، كما عرف من حال موسى وعيسى ويحيى وسليمان وغيرهم عليهم السلام، قال الله تعالى: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً [مريم:12]. قال المفسرون: أعطي يحيى العلم بكتاب الله في حال صباه، قال معمر: كان ابن سنتين أو ثلاث، فقال له الصبيان: لم لا تلعب ؟ قال: أللعب خلقت؟
إلى أن قال: وقد حكى أهل السير أن آمنة بنت وهب أخبرت أن نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- ولد حين ولد باسطاً يديه إلى الأرض، رافعاً رأسه إلى السماء، وقال في حديثه -صلى الله عليه وسلم-: لما نشأت بغضت إليَّ الأوثان وبغض إليَّ الشعر، ولم أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين فعصمني الله منهما، ثم لم أعد. ثم يتمكن الأمر لهم، وتترادف نفحات الله تعالى عليهم، وتشرق أنوار المعارف في قلوبهم حتى يصلوا الغاية، ويبلغوا باصطفاء الله تعالى لهم بالنبوة في تحصيل الخصال الشريفة النهاية دون ممارسة ولا رياضة، قال الله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً [القصص:14].
قال القاضي: ولم ينقل أحد من أهل الأخبار أن أحداً نبئ واصطفي ممن عرف بكفر وإشراك قبل ذلك، ومستند هذا الباب النقل، وقد استدل بعضهم بأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله، قال القاضي: وأنا أقول إن قريشاً قد رمت نبينا -عليه الصلاة والسلام- بكل ما افترته، وعيَّر كفار الأمم أنبياءهم بكل ما أمكنها واختلقته، مما نص الله عليه أو نقلته إلينا الرواة، ولم نجد في شيء من ذلك تعييراً لواحد منهم برفضه آلهتهم وتقريعه بذمه بترك ما كان قد جامعهم عليه، ولو كان هذا لكانوا بذلك مبادرين، وبتلونه في معبوده محتجين، ولكان توبيخهم عمَّا كان يعبد قبل أفظع وأقطع في الحجة من توبيخه بنهيهم عن تركه آلهتهتم وما كان يعبد آباؤهم من قبل، ففي إطباقهم على الإعراض عنه دليل على أنهم لم يجدوا سبيلاً إليه، إذ لو كان لنقل وما سكتوا عنه كما لم يسكتوا عن تحويل القبلة وقالوا: مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]. كما حكاه الله عنهم.
إلى أن قال: وقوله في قصة بحيرا حين استحلف النبي -صلى الله عليه وسلم- باللات والعزى، إذ لقيه بالشام في سفرته مع عمه أبي طالب وهو صبي، ورأى فيه علامات النبوة فأخبره بذلك، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا تسألني بهما، فوالله ما أبغضت شيئاً قط بغضهما. فقال له بحيرا: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه؟ فقال: سل عما بدا لك.
وكذلك المعروف من سيرته -عليه الصلاة والسلام- وتوفيق الله له أنه كان قبل نبوته يخالف المشركين في وقوفهم بمزدلفة في الحج، وكان يقف هو بعرفة؛ لأنه كان موقف إبراهيم عليه السلام.
الرابعة: إذا تقرر هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في تأويل قوله تعالى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ [الشورى:52]. فقال جماعة: معنى الإيمان في هذه الآية: شرائع الإيمان ومعالمه. ذكره الثعلبي.
وقيل: تفاصيل هذا الشرع، أي كنت غافلاً عن هذه التفاصيل. ويجوز إطلاق لفظ الإيمان على تفاصيل الشرع، ذكره القشيري، وقيل: ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان، ونحوه عن أبي العالية، وقال أبو بكر القاضي: ولا الإيمان الذي هو الفرائض والأحكام. قال: وكان قبل مؤمناً بتوحيده ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل، فزاد بالتكليف إيماناً. وهذه الأقوال الأربعة متقاربة.
وقال ابن خزيمة: عنى بالإيمان الصلاة، لقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]. أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فيكون اللفظ عاماً والمراد الخصوص.
قلت: الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان مؤمناً بالله -عزَّ وجلَّ- من حين نشأ إلى حين بلوغه، على ما تقدم، وقيل: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ أي: كنت من قوم أميين لا يعرفون الكتاب ولا الإيمان، حتى تكون قد أخذت ما جئتهم به عمَّن كان يعلم ذلك منهم، وهو كقوله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48]. روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما. انتهى كلام القرطبي رحمه الله.
وما أسميته بالآيات الشيطانية، فلعلك تعني قصة الغرانيق المكذوبة، فانظر الكلام عليها في الفتوى: 22950.
والله أعلم.