الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذا أردت أن يكون الله جل وعلا هو هدفك وغايتك بصدق فليكن شعارك في كل شؤونك هو قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ {الأنعام: 162 ، 163 }
"إنه التجرد الكامل لله ، بكل خالجة في القلب وبكل حركة في الحياة . وبالصلاة والاعتكاف . وبالمحيا والممات . بالشعائر التعبدية ، وبالحياة الواقعية ، وبالممات وما وراءه. إنها تسبيحة « التوحيد » المطلق ، والعبودية الكاملة ، تجمع الصلاة والاعتكاف والمحيا والممات ، وتخلصها لله وحده . لله { رب العالمين } . . القوام المهيمن المتصرف المربي الموجه الحاكم للعالمين . . في « إسلام » كامل لا يستبقي في النفس ولا في الحياة بقية لا يعبدها لله ، ولا يحتجز دونه شيئاً في الضمير ولا في الواقع" اهـ من (ظلال القرآن)
وحينئذ تكون عباداتك لله ومعاملاتك لله ، وأقوالك وأفعالك كلها لله ، ولن يتحقق ذلك إلا بمحاسبتك لنفسك قبل العمل وبعده.
قال ابن القيم رحمه الله: "ومحاسبة النفس نوعان : نوع قبل العمل ونوع بعده. فأما النوع الأول : فهو أن يقف عند أول همه وإرادته ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه. قال الحسن رحمه الله : رحم الله عبدا وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر. وشرح هذا بعضهم فقال : إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهم به العبد وقف أولا ونظر : هل ذلك العمل مقدور له أو غير مقدور ولا مستطاع، فإن لم يكن مقدورا لم يقدم عليه، وإن كان مقدورا وقف وقفة أخرى ونظر : هل فعله خير له من تركه، أو تركه خير له من فعله، فإن كان الثاني تركه ولم يقدم عليه، وإن كان الأول وقف وقفة ثالثة ونظر : هل الباعث عليه إرادة وجه الله عز و جل وثوابه، أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق، فإن كان الثاني لم يقدم عليه - وإن أفضى به إلى مطلوبه - لئلا تعتاد النفس الشرك ويخف عليها العمل لغير الله، فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى حتى يصير أثقل شيء عليها، وإن كان الأول وقف وقفة أخرى ونظر : هل هو معان عليه وله أعوان يساعدونه وينصرونه - إذا كان العمل محتاجا إلى ذلك - أم لا ؟ فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه كما أمسك النبي - صلى الله عليه وسلم عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار. وإن وجده معانا عليه فليقدم عليه فإنه منصور، ولا يفوت النجاح إلا من فوت خصلة من هذه الخصال وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح. فهذه أربعة مقامات يحتاج إلى محاسبة نفسه عليها قبل العمل، فما كل ما يريد العبد فعله يكون مقدورا له، ولا كل ما يكون مقدورا له يكون فعله خيرا له من تركه، ولا كل ما يكون فعله خيرا له من تركه يفعله لله، ولا كل ما يفعله لله يكون معانا عليه، فإذا حاسب نفسه على ذلك تبين له ما يقدم عليه وما يحجم عنه.
النوع الثاني : محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع : أحدها : محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي. وحق الله تعالى في الطاعة ستة أمور تقدمت وهي : الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة الرسول فيه، وشهود مشهد الإحسان فيه، وشهود منة الله عليه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله. فيحاسب نفسه : هل وفى هذه المقامات حقها ، وهل أتى بها في هذه الطاعة. الثاني : أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرا له من فعله. الثالث : أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد : لم فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ فيكون رابحا، أو أراد به الدنيا وعاجلها فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به" اهـ من (إغاثة اللهفان)
قال الحسن في قوله تعالى : وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ {القيامة:2} "لا يلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضي قدما لا يعاتب نفسه" اهـ من (الإحياء)
وإذا فعلت ذلك حسنت نياتك في جميع شئونك ، فتصير أعمالك كلها عبادات تؤجر عليها ، كما سبق في الفتوى رقم: 133239.
والله أعلم.