الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما سكتت عنه النصوص الشرعية من أمور الغيب وأحوال الماضي لا ينبغي البحث عنه ولا التقصي عن تفاصيله إلا بقدر ما ينفع، لأنه لا يترتب على ذلك عمل باطن ولا ظاهر! ويتأكد ذلك في الأمور المشتبهة، ومن جملتها الحكم على الغيب من خلال ما يعرف في الواقع، مع احتمال أو ثبوت الفرق المؤثر بينهما، ففي قصة الطوفان مثلا، لا يصح الحكم على أشكال وأجناس الحيوانات بمصاحبة حكم الواقع، لأننا لا نستطيع القطع بكون الأرض نفسها كانت حينئذ على ما هي عليه الآن في الشكل والمناخ وما يعيش عليها الكائنات الحية! بل يقرر كثير من علماء الطبيعة والأحياء أوجها للفرق بين طبيعة الأرض وما عليها في عصرنا وبين ما كانت عليه في العصور التاريخية الغابرة، وأكبر وأجل الأحداث لإثبات هذه الفوارق هو طوفان نوح ـ عليه السلام ـ حتى قسمت الحياة على الأرض لعصر ما قبل الطوفان وعصر ما بعد الطوفان!
والمقصود أن استبعاد أو استغراب حمل نوح ـ عليه السلام ـ لأنواع الأحياء معه في السفينة مبناه على استصحاب حكم الواقع بتفاصيله وعلومه المعاصرة، وهذا في الحقيقة غير لازم، فإن السفينة بناها نوح ـ عليه السلام ـ بوحي وتعليم من الله، ولا نعرف حجمها ولا شكلها ولا تصميمها، وهي معجزة وآية لأهل الأرض، كما قال تعالى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ {العنكبوت: 15}. وقال سبحانه: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ {يس: 41}.
وهي سفينة نوح، كما قال عز وجل: فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ {الشعراء: 119}.
قال ابن كثير: المشحون ـ هو المملوء بالأمتعة والأزواج التي حمل فيه من كل زوجين اثنين. اهـ.
وقال البغوي: الموقر المملوء من الناس والطير والحيوانات كلها. اهـ.
وهذه السفينة إن كانت معجزة وآية، فلا يصح قياسها على غيرها من السفن، وإلا فهل يمكن لسفينة عادية أن تجري في موج كالجبال كما جرى لسفينة نوح، ثم إن كون الطوفان عم جميع الأرض وإن كان يفهم من بعض الآيات، إلا إنه لم ينص عليه القرآن صراحة، وإنما المقطوع به أن قوم نوح ـ وهم البشر الذين كانوا يعيشون على الأرض في هذا الزمان ـ قد غرقوا جميعا إلا من ركب السفينة، فهل عم الطوفان جميع الأرض، أم كان خاصا بالبقاع التي يعيش فيها البشر؟ فهذه المسألة وإن جرى فيها الترجيح إلا إن القطع فيها غير متيسر، وعلى الاحتمال الثاني يكون ما حمله نوح هو أنواع الحيوانات التي كانت تعيش في تلك البقاع خاصة، قال صاحب الظلال: فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.. من أنواع الحيوان والطيور والنبات المعروفة لنوح في ذلك الزمان، الميسرة كذلك لبني الإنسان. اهـ.
وقد روي في بيان كيفية الجمع بين أنواع الحيوان التي لا تجتمع عادة في مكان واحد، فضلا عن سفينة ـ روايات موقوفة وآثار مقطوعة، ولسنا في حاجة إلى إيراد شيء من ذلك، للأصل الذي أصلناه، وهو أن الأمر معجزة، فلا يصح قياسه بالعقل المجرد الذي تحكمه القوانين والسنن المطردة، وقد أحسن ابن عطية الأندلسي حينما قال في تفسيره المحرر الوجيز: وهذا كله قصص لا يصح إلا لو استند، والله أعلم كيف كان. اهـ.
وقال الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب: واختلفوا في أنه هل دخل في قوله: زوجين اثنين ـ غير الحيوان أم لا؟ فنقول: أما الحيوان فداخل، لأن قوله: من كل زوجين اثنين ـ يدخل فيه كل الحيوانات، وأما النبات: فاللفظ لا يدل عليه، إلا أنه بحسب قرينة الحال لا يبعد بسبب أن الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه، وجاء في الروايات عن ابن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: لم يستطع نوح عليه السلام أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى، وذلك أن نوحا عليه السلام قال: يا رب فمن أين أطعم الأسد إذا حملته؟ قال تعالى: فسوف أشغله عن الطعام ـ فسلط الله تعالى عليه الحمى، وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها، فإن حاجة الفيل إلى الطعام أكثر وليس به حمى. اهـ.
وكذلك نقول في جواب السائل: إن هذا التساؤل الأولى تركه، مع التمسك بالمحكم من الأصول، كالإيمان بقدرة الله التامة وعلمه المحيط، وحكمته البالغة.
وأما سؤال: ما ذنب الحيوانات الباقية التي ماتت غرقا؟ فجوابه هو الجواب نفسه عن ذنب كل حيوان مات في كارثة طبيعية من فيضان أو زلزال أو صاعقة أو إعصار!!! وقد سبق لنا جواب شبهة عن إيلام الحيوان، وبيان معنى الظلم المنفي عن الله تعالى، فراجع الفتوى رقم: 175719، وما أحيل عليه فيها.
والله أعلم.