الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن عوض المنفعة المحرمة ـ كالزنا ـ لا يملكه المبذول له، وإنما اختلف العلماء هل يرد العوض على الباذل أم لا يرد؟ قال ابن القيم: إن قيل: فما تقولون فيمن سلم إليهم المنفعة المحرمة التي استأجروه عليها كالغناء والنوح والزنا واللواط؟ قيل: إن كان لم يقبض منهم العوض لم يقض له به باتفاق الأمة، وإن كان قد قبض له لم يطب له أكله ولم يملكه بذلك، والجمهور يقولون: يرده عليهم لأنه قبضه قبضا فاسدا، وهذا فيه روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد: إحداهما: أنه يرده عليهم، والثانية: لا يأكله ولا يرده، بل يتصدق به، قال شيخنا ـ يعني ابن تيمية ـ: وأصح الروايتين أنه لا يرده عليه، ولا يباح للآخذ، ويصرف في مصالح المسلمين؛ كما نص عليه أحمد في أجرة حمال الخمر. اهـ. من أحكام أهل الذمة .
وقد أفاض ابن القيم في ترجيح القول بعدم الرد في زاد المعاد فقال: وإن كان المقبوض برضى الدافع وقد استوفى عوضه المحرم، كمن عاوض على خمر أو خنزير، أو على زنى أو فاحشة، فهذا لا يجب رد العوض على الدافع؛ لأنه أخرجه باختياره، واستوفى عوضه المحرم، فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض، فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان، وتيسير أصحاب المعاصي عليه، وماذا يريد الزاني وفاعل الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله، فهذا مما تصان الشريعة عن الإتيان به، ولا يسوغ القول به، وهو يتضمن الجمع بين الظلم والفاحشة والغدر، ومن أقبح القبيح أن يستوفي عوضه من المزني بها، ثم يرجع فيما أعطاها قهرا، وقبح هذا مستقر في فطر جميع العقلاء، فلا تأتي به شريعة، ولكن لا يطيب للقابض أكله، بل هو خبيث كما حكم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن خبثه لخبث مكسبه، لا لظلم من أخذ منه، فطريق التخلص منه وتمام التوبة بالصدقة به، فإن كان محتاجا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته، ويتصدق بالباقي، فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه عينا كان أو منفعة، ولا يلزم من الحكم بخبثه وجوب رده على الدافع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخبث كسب الحجام، ولا يجب رده على دافعه، فإن قيل: فالدافع ماله في مقابلة العوض المحرم دفع ما لا يجوز دفعه، بل حجر عليه فيه الشارع، فلم يقع قبضه موقعه، بل وجود هذا القبض كعدمه، فيجب رده على مالكه، كما لو تبرع المريض لوارثه بشيء، أو لأجنبي بزيادة على الثلث، أو تبرع المحجور عليه بفلس، أو سفه، أو تبرع المضطر إلى قوته بذلك ونحو ذلك، وسر المسألة أنه محجور عليه شرعا في هذا الدفع فيجب رده، قيل: هذا قياس فاسد؛ لأن الدفع في هذه الصور تبرع محض لم يعاوض عليه، والشارع قد منعه منه لتعلق حق غيره به، أو حق نفسه المقدمة على غيره، وأما ما نحن فيه، فهو قد عاوض بماله على استيفاء منفعة، أو استهلاك عين محرمة، فقد قبض عوضا محرما، وأقبض مالا محرما، فاستوفى ما لا يجوز استيفاؤه، وبذل فيه ما لا يجوز بذله، فالقابض قبض مالا محرما، والدافع استوفى عوضا محرما، وقضية العدل تراد العوضين، لكن قد تعذر رد أحدهما، فلا يوجب رد الآخر من غير رجوع عوضه. نعم لو كان الخمر قائما بعينه لم يستهلكه، أو دفع إليها المال ولم يفجر بها، وجب رد المال في الصورتين قطعا كما في سائر العقود الباطلة إذا لم يتصل بها القبض، فإن قيل: وأي تأثير لهذا القبض المحرم حتى جعل له حرمة، ومعلوم أن قبض ما لا يجوز قبضه بمنزلة عدمه، إذ الممنوع شرعا كالممنوع حسا، فقابض المال قبضه بغير حق، فعليه أن يرده إلى دافعه؟ قيل: والدافع قبض العين، واستوفى المنفعة بغير حق، كلاهما قد اشتركا في دفع ما ليس لهما دفعه، وقبض ما ليس لهما قبضه، وكلاهما عاص لله، فكيف يخص أحدهما بأن يجمع له بين العوض والمعوض عنه، ويفوت على الآخر العوض والمعوض، فإن قيل: هو فوت المنفعة على نفسه باختياره. قيل: والآخر فوت العوض على نفسه باختياره، فلا فرق بينهما، وهذا واضح بحمد الله .اهـ.
فعلى هذا الترجيح فالواجب الصدقة بذلك العوض للمساكين، ولا يباح لباذله، ولو عفت عنه المبذول لها؛ لأنها لم تملك العوض أصلا لتعفو عنه، ولا يخفى أن الزنا كبيرة عظيمة من كبائر الذنوب يجب المبادرة إلى التوبة منها.
والله أعلم.