الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الإيمان بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- واتباعه ركن لا يصح الإسلام دونه، وهذا أمر مقطوع به، ومعلوم بالضرورة من دين الإسلام، والزعم بأن الإيمان بنبوة محمد واتباعه ليس بفرض وأن الإسلام يصح دونه قول كفري، يوجب نقض إيمان قائله وكفره ومروقه من الإسلام بالكلية؛ قال ابن تيمية: ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغَّ اتِّباع غير دين الإسلام، أو اتِّباع شريعة غير شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب. اهـ.
وقال الدكتور يوسف القرضاوي: وكل طوائف الأمة الموجودة اليوم من أهل السنة، والزيدية، والجعفرية، والإباضية، لا يَشُكُّون في كفر اليهود، والنصارى، وكل مَن لا يُؤمن برسالة محمد -عليه الصلاة والسلام-. فهذا من المسلمات الدينية المتَّفق عليها نظرًا وعملًا، بل هي مِن المعلوم من الدين بالضرورة -أي: ممَّا يتفق على معرفته الخاص والعام-، ولا يحتاج إلى إقامة دليل جزئي للبَرْهَنَةِ على صحته. وسرُّ ذلك: أن كفر اليهود والنصارى لا يدل عليه آية أو آيتان، أو عشرة أو عشرون، بل عشرات الآيات من كتاب الله، وعشرات الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما يشهد بذلك كل مَن قرأ القرآن أو درس الحديث. اهـ.
وراجع بيان هذا وشيئا من أدلته في الفتاوى التالية أرقامها: 63821، 59524، 48346.
فإذا تقرر أن هذا القول معلوم بالضرورة من دين الإسلام، علم أن القول بخلافه معلوم البطلان بالضرورة، وأن كل ما يستدل به عليه فهو باطل ضرورة.
وأما بخصوص الاستدلال بهذا الحديث المذكور على ذلك القول الكفري: فبطلانه ظاهر، وجوابه: أن الإيمان بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- جزء متضمن في الإيمان بالله وشهادة ألا إلا الله، فإذا أفرد الإيمان بالله وشهادة ألا إله إلا الله في النصوص دخل فيها شهادة أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- رسول الله؛ قال الدكتور صالح الفوزان: شهادة أن محمدًا رسول الله لا بد منها مع شهادة أن لا إله إلا الله؛ إما نطقًا بها مع شهادة أن لا إله إلا الله، وأما تضمنًا؛ فإذا ذكرت شهادة أن لا إله إلا الله وحدها، فهي متضمنة لشهادة أن محمدًا رسول الله. ولا تصح شهادة أن لا إله إلا الله بدون شهادة أن محمدًا رسول الله، ولا تقبل، ولا يحكم بإسلام من جحد رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم -. اهـ.
وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن العظيم في ذكر الإيمان بالله، ولم يذكر معها الإيمان برسوله -صلى الله عليه وسلم- كقوله تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {البقرة:256}، وقوله -جل وعلا-: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {التغابن:9}، وقوله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا {الطلاق:11}، فهل يفهم عاقل من هذه الآي وأمثالها التي ليس فيها نص على الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- أن الإيمان به ليس فرضا؟! وأن الإسلام يصح دونه؟! وهل يقول من عنده بقية عقل أن الإيمان بالقرآن العظيم، واليوم الآخر -وغيرها من أركان الإيمان- ليست بفرض؛ لأنه لم ينص عليها في هذه الآيات؟!
فكذلك يقال في حديث قصة أبي طالب، وهو ليس الحديث الوحيد الذي فيه ذكر شهادة ألا إله إلا الله دون النص على شهادة أن محمدًا رسول الله، فقد جاءت أحاديث كثيرة جدًّا بمثل ذلك، فمثلا في الصحيحين: ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة .... الحديث، وفيهما: يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرة من خير. وفي صحيح مسلم: من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة. وفي مسند أحمد من حديث شيخ من بني مالك بن كنانة قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسوق ذي المجاز، يتخللها يقول: "يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا.
فالحاصل: أن ذكر شهادة ألا إله إلا الله وحدها يدخل فيها ضمنًا شهادة أن محمدا رسول الله، وجميع أركان الإيمان وما يلزم الإقرار به.
وليعلم أن مجرد الاستدلال للقول الفاسد لا يعطيه قوة، فإنه لا يكاد صاحب باطل إلا ويستدل على باطله؛ فهذا إبليس عندما أبَى السجود ولم يستجب لله استدل لذلك، كما ذكر الله في كتابه: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ {الأعراف:12}، فكذلك أتباع إبليس من سائر الملل والنحل يستدلون لأقوالهم، لكن استدلالاتهم باطلة سقيمة لا تزيد أقوالهم إلا وهاء وضعفًا.
وثمت مسألة أخرى تتعلق بحديث قصة أبي طالب، وهي: دخول الكافر للإسلام هل يشترط فيه نطقه بالشهادتين أم يكفي نطقه بشهادة ألا إله إلا الله؛ قال ابن عثيمين: اختلف العلماء، هل توبة المرتد والكافر بقول: لا إله إلاَّ الله فقط، ثم يطالب بشهادة أن محمدًا رسول الله، فإن شهد وإلا قتل، أو لا يدخل في الإسلام حتى يشهد الشهادتين؟ اهـ. وهذه مسألة أخرى نائية كل النأي عما ورد في السؤال، ولا تعلق لها به.
والله أعلم.