الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن أفضل وقت لقيام الليل هو نصفه الأخير؛ أي: القيام بعد منتصف الليل.
قال ابن قدامة في المغني: وأفضل التهجد جوف الليل الآخر؛ لما روى عمرو بن عبسة قال: قلت: يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر، فصل ما شئت. رواه أبو داود. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أفضل الصلاة صلاة داود؛ كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه. وفي حديث ابن عباس في صفة تهجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنه نام حتى انتصف الليل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل، ثم استيقظ، فوصف تهجده حتى قال: ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاء المؤذن. انتهى.
ومقتضى أفضلية الصلاة في جوف الليل أن ثوابها أكثر، لكن إذا كان الإنسان إذا صلى أول الليل يكون أكثر همة ونشاطًا وتدبرًا, فيقرأ أكثر مما لو صلى في آخر الليل، ويكون تدبره وحضوره في الصلاة أكثر، فيظهر لنا: أن صلاته أول الليل في هذه الحالة أفضل؛ لأن ما تعلق بذات العبادة مقدم على ما تعلق بزمانها أو مكانها، ولهذا نصُّوا على أن من كان لا يستطيع الرمل بقرب الكعبة للزحمة ويستطيعه إذا بعُد عنها أن الأولى له أن يبعد عنها ويرمل؛ يقول النووي: ولو لم يمكنه الرمل بقرب الكعبة للزحمة وأمكنه إذا تباعد عنها، فالأولى: أن يتباعد ويرمل؛ لأن فضيلة الرمل هيئة للعبادة في نفسها، والقرب من الكعبة هيئة في موضع العبادة لا في نفسها، فكان تقديم ما تعلق بنفسها أولى. اهـ.
كما نصُّوا على حصول الثواب لمن قام في أي ساعة من الليل؛ يقول الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين في شرح رياض الصالحين -عند الكلام على حديث أفضل الصلاة صلاة داود-: ولكن مع هذا، إذا قام الإنسان في أي ساعة من الليل فإنه يرجى له أن ينال الثواب، هذا الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الأحب إلى الله والأفضل، لكن يكفي أن تقوم الثلث الأخير أو الثلث الأوسط أو النصف الأول، حسب ما تيسر لك؟ قالت عائشة -رضي الله عنها-: مِن كل الليل أوتر النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ من أول الليل، ووسطه، وآخره. فالأمر في هذا -ولله الحمد- واسع. اهـ.
وأما قولك: ".... وأجعل لنفسي بضع دقائق في الثلث الأخير للاستغفار والدعاء" فالجواب: أن تخصيص آخر الليل (وقت السحر) للدعاء والاستغفار أمر حسن، ومندوب إليه؛ فقد جاء في القرآن الكريم مدح المستغفرين في ذلك الوقت، قال تعالى: وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ {الذاريات:18}، ولأن وقت الثلث الأخير -عمومًا- هو وقتُ التنزل الإلهي؛ فيحسن فيه الدعاء والاستغفار لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ينزل ربنا -تبارك وتعالى- كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ متفق عليه، وهذا لفظ البخاري.
وقد كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يخصص وقت السحر للاستغفار والدعاء.
يقول ابن كثير -رحمه الله-: وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل، ثم يقول: يا نافع، هل جاء السحر؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح. رواه ابن أبي حاتم. اهـ.
ويقول الشيخ/ محمد بن محمد المختار الشنقيطي في شرح زاد المستقنع: وقد قرر العلماء -رحمهم الله- أن أفضل قيام الليل الثلث الآخر، ولكنهم استحبوا أن يكون السحر للاستغفار، والسحر يوافق سدس الليل الأخير، فيجعل ما قبل السدس للتهجد والعبادة وتلاوة القرآن تأسيًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان -عليه الصلاة والسلام- يقوم ثلث الليل الآخر، فكان يصلي ما شاء الله له أن يصلي، ثم إذا فرغ جعل بينه وبين صلاته وأذان الفجر وقتًا، كما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها-، ولذلك قال العلماء: الأفضل في آخر الليل -أعني السدس الأخير من الليل- أن يتفرغ للاستغفار، حتى قال بعض العلماء: هو أفضل من تلاوة القرآن؛ لأن الله يقول: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]، فأثنى على من استغفره سبحانه في هذا الوقت. اهـ.
وأما قولك: "وهل أجر القراءة نفسها يزيد في الثلث الأخير" فالجواب: نعم؛ لأن أجر العبادة -عمومًا- يعظم ويضاعف بفضل وعظم الزمان والمكان، وقد نص بعض أهل العلم على أن أفضل أوقات تلاوة القرآن وقت الثلث الأخير من الليل؛ قال العلامة/ محمد مولود الشنقيطي -رحمه الله-:
والليل أفضل وقوت التالي * وأفضل الليل النصيف التالي.
وقال الشيخ/ صلاح عبد الفتاح الخالدي في كتابه القيم مفاتيح للتعامل مع القرآن: وأفضل الأوقات ما كان في الثلث الأخير من الليل وقت السحر، ثم قراءة الليل، ثم قراءة الفجر، ثم قراءة الصبح، ثم قراءة باقي أوقات النهار. اهـ.
والله أعلم.