الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فصحيح أن الليل يبدأ من غروب الشمس، وهو وقت أذان المغرب، قال الفيومي في (المصباح المنير): النهار في اللغة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس... ولا واسطة بين الليل والنهار... والليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر... اهـ.
وعلى ذلك فلا وجه لكون بداية قيام الليل وليلة القدر، من صلاة العصر!!
وأما السؤال عن سبب نزول ملائكة الليل قبل غروب الشمس، وتحديدا في صلاة العصر، فهذا يرجع إلى فضل هذه الصلاة وفضل وقتها، وهو وقت العشي الذي كثر التنبيه عليه في القرآن، قال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ {آل عمران:41}، وقال سبحانه: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ {الأنعام:52}، وقال: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ {الكهف:28}، وقال: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ {غافر:55}، وقال: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا {طه:130}، وقال: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ {ق:39}، وقال: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ {ص:18}.
قال العراقي في (طرح التثريب) في فوائد الحديث المذكور: فيه فضيلة صلاة العصر والصبح باجتماع الملائكة فيهما، وهما المراد بقوله تعالى: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} [طه: 130] كما قاله جرير بن عبد الله حين روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ـ يعني العصر والفجر ـ ثم قرأ جرير الآية» أخرجه الأئمة الستة، وفي صحيح مسلم من حديث عمارة بن رويبة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ـ يعني الفجر والعصر»، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى «من صلى البردين دخل الجنة» .. اهـ.
وقال في ساعة الإجابة يوم الجمعة وكونها بعد العصر: الأكثرون من الصحابة على ذلك، وروى سعيد بن منصور في سننه من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعوا فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة، فتفرقوا ولم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة. انتهى. قال المهلب: وحجة من قال إنها بعد العصر قوله عليه الصلاة والسلام: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم»، فهو وقت العروج وعرض الأعمال على الله فيوجب الله تعالى فيه مغفرته للمصلين من عباده، ولذلك شدد النبي صلى الله عليه وسلم فيمن حلف على سلعته بعد العصر لقد أعطي بها أكثر؛ تعظيما للساعة، وفيها يكون اللعان والقسامة، وقيل في قوله تعالى {تحبسونهما من بعد الصلاة} [المائدة: 106]: إنها العصر. انتهى. وحكاه الترمذي في جامعه عن أحمد وإسحاق ثم قال: وقال أحمد: أكثر الحديث في الساعة التي ترجى فيها إجابة الدعوة أنها بعد العصر. اهـ.
وقال ابن عثيمين في (شرح رياض الصالحين): قيد الله سبحانه وتعالى وقت صعودهم ونزولهم بهاتين الصلاتين لفضلهما؛ لأن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى، وصلاة الفجر هي الصلاة المشهودة. اهـ.
وقال ابن الجوزي في (كشف المشكل): قوله: "ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر" وذاك أن ملائكة الليل تهبط عند صلاة العصر، وملائكة النهار تهبط قبل صلاة الفجر... اهـ.
وقال ابن العربي شرح الموطأ: خلق الباري الأزمنة كما قدمنا سواء، وفضَّل بعضها على بعض بما شاء، حسب ما تقدم بيانه، فمن فضائل النهار تعاقب الملائكة، ومن فضائل الليل نزول الربِّ إلى سماء الدنيا. اهـ.
ثم إننا ننبه على أن أهل العلم قد اختلفوا في كون هؤلاء الملائكة هم كتبة الأعمال، قال ابن رجب في (فتح الباري): هؤلاء الملائكة، يحتمل أنهم المعقبات، وهم الحفظة، ويحتمل أنهم كتبة الأعمال، وروى أبو عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود في قوله: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا {الإسراء:78}، قال: يعني صلاة الصبح، يتدارك فيه الحرسان ملائكة الليل وملائكة النهار، وقال إبراهيم، عن الأسود بن يزيد: يلتقي الحارسان من ملائكة الليل وملائكة النهار عند صلاة الصبح، فيسلم بعضهم على بعض، ويحيي بعضهم بعضاً، فتصعد ملائكة الليل وتبسط ملائكة النهار. اهـ.
وقال العراقي في (طرح التثريب): اختلف العلماء في المراد بهؤلاء الملائكة هل هم الحفظة أو غيرهم؟ فحكى صاحب المفهم عن الجمهور أنهم الحفظة، وقال: إن الأظهر عنده أنهم غير الحفظة، وما ذكر أنه الأظهر هو الذي لا يتجه غيره؛ لأنه لم ينقل أن حفظة الليل غير حفظة النهار، وهذا الحديث لا يدل لما حكاه عن الجمهور. اهـ.
والله أعلم.