الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد روى أحمد، والترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه.
قوله: نفس المؤمن معلقة ـ قال السيوطي: أي: محبوسة عن مقامها الكريم، وقال العراقي: أي: أمرها موقوف، لا حكم لها بنجاة، ولا هلاك؛ حتى ينظر هل يقضى ما عليها من الدين أم لا؟. انتهى.
وقال ابن عثيمين: يعني أن نفسه وهو في قبره معلقة بالدّين، كأنها ـ والله أعلم ـ تتألم من تأخير الدين، ولا تفرح بنعيم، ولا تنبسط؛ لأن عليه دينًا.
وقد اختلف أهل العلم في محمل هذا الحديث، فمنهم من قال بعمومه، سواء ترك الميت وفاء أم لا، ومنهم من خصه بمن خلف وفاء، قال المباركفوري: وسواء ترك الميت وفاء أم لا، كما صرح به جمهور أصحابنا، وشذ الماوردي فقال: إن الحديث محمول على من يخلف وفاء.
وقال الشوكاني في النيل: فيه الحث للورثة على قضاء دين الميت، والإخبار لهم بأن نفسه معلقة بدينه حتى يقضى عنه، وهذا مقيد بمن له مال يقضى منه دينه، وأما من لا مال له، ومات عازمًا على القضاء، فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الله تعالى يقضي عنه، بل ثبت أن مجرد محبة المديون عند موته للقضاء موجبة لتولي الله سبحانه لقضاء دينه، وإن كان له مال ولم يقض منه الورثة، أخرج الطبراني عن أبي أمامة مرفوعًا: من دان بدين في نفسه وفاؤه، ومات تجاوز الله عنه، وأرضى غريمه بما شاء، ومن دان بدين وليس في نفسه وفاؤه ومات، اقتص الله لغريمه منه يوم القيامة ـ وأخرج أيضًا من حديث ابن عمر: الدين دينان، فمن مات وهو ينوي قضاءه، فأنا وليه، ومن مات ولا ينوي قضاءه، فذلك الذي يؤخذ من حسناته، ليس يومئذ دينار، ولا درهم ـ وأخرج أحمد، وأبو نعيم في الحلية، والبزار، والطبراني بلفظ: يدعى بصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يدي الله عز وجل، فيقول: يا بن آدم، فيم أخذت هذا الدين؟ وفيم ضيعت حقوق الناس؟ فيقول: يا رب، إنك تعلم أني أخذته فلم آكل، ولم أشرب، ولم أضيع، ولكن أتى على يدي: إما حرق، وإما سرق، وإما وضيعة، فيقول الله: صدق عبدي، وأنا أحق من قضى عنك، فيدعو الله بشيء فيضعه في كفة ميزانه، فترجح حسناته على سيئاته، فيدخل الجنة بفضل رحمته.
هكذا ذكر الشوكاني هذه الأحاديث بغير الإسناد، ولم يتكلم عليها بشيء من الصحة والضعف، ثم ذكر حديث أبي هريرة مرفوعًا: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله. أخرجه البخاري. ثم ذكر حديث ميمونة: ما من مسلم يدان دينا يعلم الله أنه يريد أداءه إلا أدى الله عنه في الدنيا والآخرة. قال: وأخرج الحاكم بلفظ: من تداين بدينٍ في نفسه وفاؤه ثم مات تجاوز الله عنه، وأرضى غريمه بما شاء.
وعلى هذا؛ فإن كان ذلك الرجل عازمًا على السداد، فنرجو ألا يشمله الحديث المذكور، ويجدر بالذكر أن أهل العلم قد اختلفوا في الديون المؤجلة هل تحل بالموت أو لا، والجمهور على أنها تحل، وانظر الفتوى رقم: 144557، وما أحيل عليه فيها.
والله أعلم.