الإجابــة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فعائشة رضي الله عنها لم تخرج في القتال الذي حدث بين
علي ومعاوية ولم تشهد من ذلك شيئاً وإنما خرجت مع
طلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين عندما خرجوا لملاحقة قتلة
عثمان رضي الله عنه ومطالبة
علي رضي الله عنه بمعاقبتهم، وكان غرضها من خروجها الصلح بين المسلمين فحدث ما حدث في معركة الجمل بين
طلحة والزبير وعائشة من جهة
وعلي رضي الله عنهم من جهة أخرى وكان أمر الله قدراً مقدوراً: َ
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253].
كما هو مبين في الفتوى رقم:
3227.
وأما حديث
عمار فهو في الصحيحين وقد بين شيخ الإسلام
ابن تيمية معنى الحديث وما حدث بين
علي ومعاوية رضي الله عنهما، وأي الطائفتين أولى بالحق، وموقف المسلم من ذلك ومما قال:
وكان الْمُؤْمِنُون قدْ افْترقُوا فِرْقتيْنِ : فِرْقةٍ مع علِيٍّ , وفِرْقةٍ مع مُعاوِية ، فقاتل هؤُلاءِ علِيًّا وأصْحابهُ , فوقع الْأمْرُ كما أخْبر بهْ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم , وكما ثبت عنْهُ أيْضًا فِي الصّحِيحِ أنّهُ قال عنْ الْحسنِ ابْنِهِ : إنّ ابْنِي هذا سيِّدٌ , وسيُصْلِحُ اللّهُ بهْ بيْن طائِفتيْنِ عظِيمتيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِين. فأصْلح اللّهُ بهْ بيْن شِيعةِ علِيّ وشِيعةِ مُعاوِية، وأثْنى النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم على الْحسنِ بِهذا الصُّلْحِ الّذِي كان على يديْهِ وسمّاهُ سيِّدًا بِذلِك; لِأجْلِ أنّ ما فعلهُ الْحسنُ يُحِبُّهُ اللّهُ ورسُولُهُ, ويرْضاهُ اللّهُ ورسُولُهُ، ولوْ كان الِاقْتِتالُ الّذِي حصل بيْن الْمُسْلِمِين هُو الّذِي أمر اللّهُ بِهِ ورسُولُهُ لمْ يكُنْ الْأمْرُ كذلِك; بلْ يكُونُ الْحسنُ قدْ ترك الْواجِب, أوْ الْأحبّ إلى اللّهِ، وهذا النّصُّ الصّحِيحُ الصّرِيحُ يُبيِّنُ أنّ ما فعلهُ الْحسنُ محْمُودٌ, مرْضِيٌّ لِلّهِ ورسُولِهِ , وقدْ ثبت فِي الصّحِيحِ , أنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كان يضعُهُ على فخِذِهِ, ويضعُ أُسامة بْن زيْدٍ, ويقُولُ: "اللّهُمّ إنِّي أُحِبُّهُما, وأُحِبُّ منْ يُحِبُّهُما." وهذا أيْضًا مِمّا ظهر فِيهِ محبّتُهُ ودعْوتُهُ صلى الله عليه وسلم; فإِنّهُما كانا أشدّ النّاسِ رغْبةً فِي الْأمْرِ الّذِي مدح النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بهْ الْحسن, وأشدّ النّاسِ كراهةً لما يُخالِفُهُ وهذا مِمّا يُبيِّنُ أنّ الْقتْلى مِنْ أهْلِ صفين لمْ يكُونُوا عِنْد النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمنْزِلةِ الْخوارِجِ الْمارِقِين, الّذِين أمر بِقِتالِهِمْ, وهؤُلاءِ مدح الصُّلْح بيْنهُمْ ولمْ يأْمُرْ بِقِتالِهِمْ; ولِهذا كانتْ الصّحابةُ والْأئِمّةُ مُتّفِقِين على قِتالِ الْخوارِجِ الْمارِقِين, وظهر مِنْ علِيٍّ رضي الله عنه السُّرُورُ بِقِتالِهِمْ; ومِنْ رِوايتِهِ عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْأمْر بِقِتالِهِمْ : ما قدْ ظهر عنْهُ وأمّا قِتالُ الصّحابةِ فلمْ يُرْو عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ أثرٌ, ولمْ يظْهرْ فِيهِ سُرُورٌ; بلْ ظهر مِنْهُ الْكآبةُ , وتمنّى أنْ لا يقع , وشكر بعْض الصّحابةِ , وبرّأ الْفرِيقيْنِ مِنْ الْكُفْرِ والنِّفاقِ , وأجاز التّرحُّم على قتْلى الطّائِفتيْنِ , وأمْثال ذلِك مِنْ الْأُمُورِ الّتِي يُعْرفُ بِها اتِّفاقُ علِيٍّ وغيْرِهِ مِنْ الصّحابةِ على أنّ كُلّ واحِدةٍ مِنْ الطّائِفتيْنِ مُؤْمِنةٌ ، وقدْ شهِد الْقُرْآنُ بِأنّ اقْتِتال الْمُؤْمِنِين لا يُخْرِجُهُمْ عنْ الْإِيمانِ بِقوْلِهِ تعالى : وإِنْ طائِفتانِ مِن الْمُؤْمِنِين اقْتتلُوا فأصْلِحُوا بيْنهُما فإِنْ بغتْ إحْداهُما على الْأُخْرى فقاتِلُوا الّتِي تبْغِي حتّى تفِيء إلى أمْرِ اللّهِ فإِنْ فاءتْ فأصْلِحُوا بيْنهُما بِالْعدْلِ وأقْسِطُوا إنّ اللّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِين
إنّما الْمُؤْمِنُون إخْوةٌ فأصْلِحُوا بيْن أخويْكُمْ واتّقُوا اللّه لعلّكُمْ تُرْحمُون فسمّاهُمْ " مُؤْمِنِين " وجعلهُمْ " إخْوةً " مع وُجُودِ الِاقْتِتالِ والْبغْيِ ، والْحدِيثُ الْمذْكُورُ (إذا اقْتتل خلِيفتانِ فأحدُهُما ملْعُونٌ) كذِبٌ مُفْترًى لمْ يرْوِهِ أحدٌ مِنْ أهْلِ الْعِلْمِ بِالْحدِيث, ولا هُو فِي شيْءٍ مِنْ دواوِينِ الْإِسْلامِ الْمُعْتمدةِ، و مُعاوِيةُ لمْ يدّعِ الْخِلافة ، ولمْ يُبايعْ لهُ بِها حيْن قاتل علِيًّا، ولمْ يُقاتِلْ على أنّهُ خلِيفةٌ ، ولا أنّهُ يسْتحِقُّ الْخِلافة ، ويُقِرُّون لهُ بِذلِك ، وقدْ كان مُعاوِيةُ يُقِرُّ بِذلِك لِمنْ سألهُ عنْهُ ، ولا كان مُعاوِيةُ وأصْحابُهُ يروْن أنْ يبْتدُوا علِيًّا وأصْحابهُ بِالْقِتالِ ، ولا يعْلُوا ، بلْ لمّا رأى علِيٌّ رضي الله عنه وأصْحابُهُ أنّهُ يجِبُ عليْهِمْ طاعتُهُ ومُبايعتُهُ, إذْ لا يكُون لِلْمُسْلِميْنِ إلّا خلِيفةٌ واحِدٌ, وأنّهُمْ خارِجُون عنْ طاعتِهِ يمْتنِعُون عنْ هذا الْواجِبِ, وهُمْ أهْلُ شوْكةٍ رأى أنْ يُقاتِلهُمْ حتّى يُؤدُّوا هذا الْواجِب, فتحْصُل الطّاعةُ والْجماعةُ، وهُمْ قالُوا: إنّ ذلِك لا يجِبُ عليْهِمْ, وإِنّهُمْ إذا قُوتِلُوا على ذلِك كانُوا مظْلُومِين قالُوا: لِأنّ عُثْمان قُتِل مظْلُومًا بِاتِّفاقِ الْمُسْلِمِين, وقتلتُهُ فِي عسْكرِ علِيٍّ, وهُمْ غالِبُون لهُمْ شوْكةٌ, فإِذا امْتنعْنا ظلمُونا واعْتدوْا عليْنا، وعلِيٌّ لا يُمْكِنُهُ دفْعُهُمْ, كما لمْ يُمْكِنْهُ الدّفْعُ عنْ عُثْمان; وإِنّما عليْنا أنْ نُبايِع خلِيفةً يقْدِرُ على أنْ يُنْصِفنا ويبْذُل لنا الْإِنْصاف، وكان فِي جُهّالِ الْفرِيقيْنِ منْ يظُنُّ بِعلِيِّ وعُثْمان ظُنُونًا كاذِبةً, برّأ اللّهُ مِنْها علِيًّا, وعُثْمان: كان يظُنُّ بِعلِيِّ أنّهُ أمر بِقتْلِ عُثْمان, وكان علِيٌّ يحْلِفُ وهُو الْبارُّ الصّادِقُ بِلا يمِينٍ أنّهُ لمْ يقْتُلْهُ, ولا رضِي بِقتْلِهِ, ولمْ يُمالِئْ على قتْلِهِ، وهذا معْلُومٌ بِلا ريْبٍ مِنْ علِيٍّ رضي الله عنه، فكان أُناسٌ مِنْ مُحِبِّي علِيٍّ ومِنْ مُبْغِضِيهِ يُشِيعُون ذلِك عنْهُ: فمُحِبُّوهُ يقْصِدُون بِذلِك الطّعْن على عُثْمان بِأنّهُ كان يسْتحِقُّ الْقتْل, وأنّ علِيًّا أمر بِقتْلِهِ، ومُبْغِضُوهُ يقْصِدُون بِذلِك الطّعْن على علِيٍّ, وأنّهُ أعان على قتْلِ الْخلِيفةِ الْمظْلُومِ الشّهِيدِ, الّذِي صبّر نفْسهُ ولمْ يدْفعْ عنْها, ولمْ يسْفِكْ دم مُسْلِمٍ فِي الدّفْعِ عنْهُ, فكيْف فِي طلب طاعتِهِ وأمْثالُ هذِهِ الْأُمُورِ الّتِي يتسبّبُ بِها الزّائِغُون على الْمُتشيِّعِين الْعُثْمانِيّةِ, والْعلوِيّةِ، وكُلُّ فِرْقةٍ مِنْ الْمُتشيِّعِين مُقِرّةٌ مع ذلِك بِأنّهُ ليْس مُعاوِيةُ كُفْئًا لِعلِيِّ بِالْخِلافةِ, ولا يجُوزُ أنْ يكُون خلِيفةٌ مع إمْكانِ اسْتِخْلافِ علِيٍّ رضي الله عنه; فإِنّ فضْل علِيٍّ وسابقيته, وعِلْمهُ, ودِينهُ, وشجاعتهُ, وسائِر فضائِلِهِ: كانتْ عِنْدهُمْ ظاهِرةً معْرُوفةً, كفضْلِ إخْوانِهِ: أبِي بكْرٍ, وعُمر, وعُثْمان, وغيْرِهِمْ رضي الله عنهم ولمْ يكُنْ بقِي مِنْ أهْلِ الشُّورى غيْرُهُ وغيْرُ سعْدٍ, وسعْدٌ كان قدْ ترك هذا الْأمْر, وكان الْأمْرُ قدْ انْحصر فِي عُثْمان وعلِيٍّ; فلمّا تُوُفِّي عُثْمانُ لمْ يبْق لها مُعيّنٌ إلّا علِيٌّ رضي الله عنه; وإِنّما وقع الشّرُّ بِسببِ قتْلِ عُثْمان, فحصل بِذلِك قُوّةُ أهْلِ الظُّلْمِ والْعُدْوانِ وضعْفُ أهْلِ الْعِلْمِ والْإِيمانِ, حتّى حصل مِنْ الْفُرْقةِ والِاخْتِلافِ ما صار يُطاعُ فِيهِ منْ غيْرُهُ أوْلى مِنْهُ بِالطّاعةِ; ولِهذا أمر اللّهُ بِالْجماعةِ والائتلاف, ونهى عنْ الْفُرْقةِ والِاخْتِلافِ; ولِهذا قِيل: ما يكْرهُون فِي الْجماعةِ خيْرٌ مِمّا يُجْمِعُون مِنْ الْفُرْقةِ، وأمّا الْحدِيثُ الّذِي فِيهِ {إنّ عمّارًا تقْتُلُهُ الْفِئةُ الْباغِيةُ} فهذا الْحدِيثُ قدْ طعن فِيهِ طائِفةٌ مِنْ أهْلِ الْعِلْمِ; لكِنْ رواهُ مُسْلِمٌ فِي صحِيحِهِ, وهُو فِي بعْضِ نُسخِ الْبُخارِيِّ: قدْ تأوّلهُ بعْضُهُمْ على أنّ الْمُراد بِالْباغِيةِ الطّالِبةُ بِدمِ عُثْمان, كما قالُوا: نبْغِي ابْن عفان بِأطْرافِ الأسل، وليْس بِشيْءِ; بلْ يُقالُ ما قالهُ رسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم , فهُو حقٌّ كما قالهُ , وليْس فِي كوْنِ عمّارٍ تقْتُلهُ الْفِئةُ الْباغِيةُ ما يُنافِي ما ذكرْناهُ , فإِنّهُ قدْ قال اللّهُ تعالى : وإِنْ طائِفتانِ مِن الْمُؤْمِنِين اقْتتلُوا فأصْلِحُوا بيْنهُما فإِنْ بغتْ إحْداهُما على الْأُخْرى فقاتِلُوا الّتِي تبْغِي حتّى تفِيء إلى أمْرِ اللّهِ فإِنْ فاءتْ فأصْلِحُوا بيْنهُما بِالْعدْلِ وأقْسِطُوا إنّ اللّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِين
إنّما الْمُؤْمِنُون إخْوةٌ فأصْلِحُوا بيْن أخويْكُمْ فقدْ جعلهُمْ مع وُجُودِ الِاقْتِتالِ والْبغْيِ مُؤْمِنِين إخْوةً; بلْ مع أمْرِهِ بِقِتالِ الْفِئةِ الْباغِيةِ جعلهُمْ مُؤْمِنِين، وليْس كُلُّ ما كان بغْيًا وظُلْمًا أوْ عُدْوانًا يُخْرِجُ عُمُوم النّاسِ عنْ الْإِيمانِ, ولا يُوجِبُ لعْنتهُمْ; فكيْف يُخْرِجُ ذلِك منْ كان مِنْ خيْرِ الْقُرُونِ؟ وكُلُّ منْ كان باغِيًا, أوْ ظالِمًا, أوْ مُعْتدِيًا, أوْ مُرْتكِبًا ما هُو ذنْبٌ فهُو " قِسْمانِ " مُتأوِّلٌ, وغيْرُ مُتأوِّلٍ, فالْمُتأوِّلُ الْمُجْتهِدُ: كأهْلِ الْعِلْمِ والدِّينِ, الّذِين اجْتهدُوا, واعْتقد بعْضُهُمْ حِلّ أُمُورٍ, واعْتقد الْآخرُ تحْرِيمها كما اسْتحلّ بعْضُهُمْ بعْض أنْواعِ الْأشْرِبةِ, وبعْضُهُمْ بعْض الْمُعاملاتِ الرِّبوِيّةِ وبعْضُهُمْ بعْض عُقُودِ التّحْلِيلِ والْمُتْعةِ, وأمْثالُ ذلِك, فقدْ جرى ذلِك وأمْثالُهُ مِنْ خِيارِ السّلفِ، فهؤُلاءِ الْمُتأوِّلُون الْمُجْتهِدُون غايتُهُمْ أنّهُمْ مُخْطِئُون, وقدْ قال اللّهُ تعالى: ربّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نسِينا أوْ أخْطأْنا وقدْ ثبت فِي الصّحِيحِ أنّ اللّه اسْتجاب هذا الدُّعاء، وقدْ أخْبر سُبْحانهُ عنْ داود وسُليْمان عليهما السلام إنّما حكما فِي الْحرْثِ, وخصّ أحدهُما بِالْعِلْمِ والْحُكْمِ, مع ثنائِهِ على كُلٍّ مِنْهُما بِالْعِلْمِ والْحُكْمِ، والْعُلماءُ ورثةُ الْأنْبِياءِ, فإِذا فهِم أحدُهُمْ مِنْ الْمسْألةِ ما لمْ يفْهمْهُ الْآخرُ لمْ يكُنْ بِذلِك ملُومًا ولا مانِعًا لِما عُرِف مِنْ عِلْمِهِ ودِينِهِ, وإِنْ كان ذلِك مع الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ يكُون إثْمًا وظُلْمًا, والْإِصْرارُ عليْهِ فِسْقًا, بلْ متى عُلِم تحْرِيمُهُ ضرُورةً كان تحْلِيلُهُ كُفْرًا ، فالْبغْيُ هُو مِنْ هذا الْبابِ، أما إذا كان الْباغِي مُجْتهِدًا ومُتأوِّلًا, ولمْ يتبيّنْ لهُ أنّهُ باغٍ, بلْ اعْتقد أنّهُ على الْحقِّ وإِنْ كان مُخْطِئًا فِي اعْتِقادِهِ: لمْ تكُنْ تسْمِيتُهُ "باغِيًا" مُوجِبةً لِإِثْمِهِ, فضْلًا عنْ أنْ تُوجِب فِسْقهُ، والّذِين يقُولُون بِقِتالِ الْبُغاةِ الْمُتأوِّلِين; يقُولُون: مع الْأمْرِ بِقِتالِهِمْ قِتالُنا لهُمْ لِدفْعِ ضررِ بغْيِهِمْ; لا عُقُوبةً لهُمْ; بلْ لِلْمنْعِ مِنْ الْعُدْوانِ، ويقُولُون: إنّهُمْ باقُون على الْعدالةِ; لا يُفسّقُون، ويقُولُون هُمْ كغيْرِ الْمُكلّفِ, كما يُمْنعُ الصّبِيُّ والْمجْنُونُ والنّاسِي والْمُغْمى عليْهِ والنّائِمُ مِنْ الْعُدْوانِ أنْ لا يصْدُر مِنْهُمْ ; بلْ تُمْنعُ الْبهائِمُ مِنْ الْعُدْوانِ، ويجِبُ على منْ قُتِل مُؤْمِنًا خطأً الدِّيةُ بِنصِّ الْقُرْآنِ مع أنّهُ لا إثْم عليْهِ فِي ذلِك, وهكذا منْ رُفِع إلى الْإِمامِ مِنْ أهْلِ الْحُدُودِ وتاب بعْد الْقُدْرةِ عليْهِ فأقام عليْهِ الْحدّ, والتّائِبُ مِنْ الذّنْبِ كمنْ لا ذنْب لهُ, والْباغِي الْمُتأوِّلُ يُجْلدُ عِنْد مالِكٍ والشّافِعِيِّ وأحْمد ونظائِرُهُ مُتعدِّدةٌ، ثُمّ بِتقْدِيرِ أنْ يكُون "الْبغْيُ" بِغيْرِ تأْوِيلٍ: يكُون ذنْبًا, والذُّنُوبُ تزُولُ عُقُوبتُها بِأسْبابِ مُتعدِّدةٍ : بِالْحسناتِ الْماحِيةِ, والْمصائِبِ الْمُكفِّرةِ, وغيْرِ ذلِك، ثُمّ (إنّ عمّارًا تقْتُلُهُ الْفِئةُ الْباغِيةُ) ليْس نصًّا فِي أنّ هذا اللّفْظ لمعاوية وأصْحابِهِ; بلْ يُمْكِنُ أنّهُ أُرِيد بهْ تِلْك الْعِصابةُ الّتِي حملتْ عليْهِ حتّى قتلتْهُ, وهِي طائِفةٌ مِنْ الْعسْكرِ, ومنْ رضِي بِقتْلِ عمّارٍ كان حُكْمُهُ حُكْمها، ومِنْ الْمعْلُومِ أنّهُ كان فِي الْعسْكرِ منْ لمْ يرْض بِقتْلِ عمّارٍ، كعبْدِ اللّهِ بْنِ عمْرِو بْنِ العاص, وغيْرِهِ; بلْ كُلُّ النّاسِ كانُوا مُنْكرِين لِقتْلِ عمّارٍ, حتّى مُعاوِيةُ, وعمْرٌو، ويُرْوى أنّ مُعاوِية تأوّل أنّ الّذِي قتلهُ هُو الّذِي جاء بِهِ; دُون مُقاتِلِيهِ، وأنّ علِيًّا ردّ هذا التّأْوِيل بِقوْلِهِ: فنحْنُ إذًا قتلْنا حمْزة، ولا ريْب أنّ ما قالهُ علِيٌّ هُو الصّوابُ; لكِنْ منْ نظر فِي كلامِ الْمُتناظِرِين مِنْ الْعُلماءِ الّذِين ليْس بيْنهُمْ قِتالٌ ولا مُلْكٌ, وأنّ لهُمْ فِي النُّصُوصِ مِنْ التّأْوِيلاتِ ما هُو أضْعفُ مِنْ مُعاوِية بِكثِيرِ، ومنْ تأوّل هذا التّأْوِيل لمْ ير أنّهُ قتل عمّارًا, فلمْ يعْتقِدْ أنّهُ باغٍ, ومنْ لمْ يعْتقِدْ أنّهُ باغٍ وهُو فِي نفْسِ الْأمْرِ باغٍ، فهُو مُتأوِّلٌ مُخْطِئٌ، والْفُقهاءُ ليْس فِيهِمْ مِنْ رأْيِهِ الْقِتالُ مع منْ قتل عمّارًا; لكِنْ لهُمْ قوْلانِ مشْهُورانِ كما كان عليْهِما أكابِرُ الصّحابةِ: مِنْهُمْ منْ يرى الْقِتال مع عمّارٍ وطائِفتِهِ, ومِنْهُمْ منْ يرى الْإِمْساك عنْ الْقِتالِ مُطْلقًا، وفِي كُلٍّ مِنْ الطّائِفتيْنِ طوائِفُ مِنْ السّابِقِين الْأوّلِين، ففِي الْقوْلِ الْأوّلِ عمّارٌ, وسهْلُ بْنُ حنيف, وأبُو أيُّوب، وفِي الثّانِي سعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ, ومُحمّدُ بْنُ مسلمة; وأُسامةُ بْنُ زيْدٍ, وعبْدُ اللّهِ بْنُ عُمر ونحْوُهُمْ، ولعلّ أكْثر الْأكابِرِ مِنْ الصّحابةِ كانُوا على هذا الرّأْيِ; ولمْ يكُنْ فِي الْعسْكريْنِ بعْد علِيٍّ أفضْلُ مِنْ سعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ, وكان مِنْ الْقاعِدِين، وحدِيثُ عمّارٍ قدْ يحْتجُّ بِهِ منْ رأى الْقِتال; لِأنّهُ إذا كان قاتِلُوهُ بُغاةً فاللّهُ يقُول: فقاتِلُوا الّتِي تبْغِي والمتمسكون يحْتجُّون بِالْأحادِيثِ الصّحِيحةِ عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي: أنّ الْقُعُود عنْ الْفِتْنةِ خيْرٌ مِنْ الْقِتالِ فِيها. وتقُولُ: إنّ هذا الْقِتال ونحْوهُ هُو قِتالُ الْفِتْنةِ; كما جاءتْ أحادِيثُ صحِيحةٌ تُبيِّنُ ذلِك; وأنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم لمْ يأْمُرْ بِالْقِتال; ولمْ يرْض بِهِ; وإِنّما رضِي بِالصُّلْحِ; وإِنّما أمر اللّهُ بِقِتالِ الْباغِي; ولمْ يأْمُرْ بِقِتالِهِ ابْتِداءً; بلْ قال: وإِنْ طائِفتانِ مِن الْمُؤْمِنِين اقْتتلُوا فأصْلِحُوا بيْنهُما فإِنْ بغتْ إحْداهُما على الْأُخْرى فقاتِلُوا الّتِي تبْغِي حتّى تفِيء إلى أمْرِ اللّهِ فإِنْ فاءتْ فأصْلِحُوا بيْنهُما بِالْعدْلِ وأقْسِطُوا إنّ اللّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِين قالُوا: والِاقْتِتالُ الْأوّلُ لمْ يأْمُرْ اللّهُ بِهِ; ولا أمر كُلّ منْ بُغِي عليْهِ أنْ يُقاتِل منْ بغى عليْهِ; فإِنّهُ إذا قتل كُلّ باغٍ كفر; بلْ غالِبُ الْمُؤْمِنِين; بلْ غالِبُ النّاسِ: لا يخْلُو مِنْ ظُلْمٍ وبغْيٍ; ولكِنْ إذا اقْتتلتْ طائِفتانِ مِنْ الْمُؤْمِنِين فالْواجِبُ الْإِصْلاحُ بيْنهُما; وإِنْ لمْ تكُنْ واحِدةٌ مِنْهُما مأْمُورةً بِالْقِتالِ, فإِذا بغتْ الْواحِدةُ بعْد ذلِك قُوتِلتْ; لِأنّها لمْ تتْرُكْ الْقِتال; ولمْ تُجِبْ إلى الصُّلْحِ; فلمْ ينْدفِعْ شرُّها إلّا بِالْقِتالِ، فصار قِتالُها بِمنْزِلةِ قِتالِ الصّائِلِ الّذِي لا ينْدفِعُ ظُلْمُهُ عنْ غيْرِهِ إلّا بِالْقِتالِ, كما قال النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: منْ قُتِل دُون مالِهِ فهُو شهِيدٌ, ومنْ قُتِل دُون دمِهِ فهُو شهِيدٌ, ومنْ قُتِل دُون دِينِهِ فهُو شهِيدٌ, ومنْ قُتِل دُون حُرْمتِهِ فهُو شهِيدٌ. ، قالُوا: فبِتقْدِيرِ أنّ جمِيع الْعسْكرِ بُغاةٌ فلمْ نُؤْمرْ بِقِتالِهِمْ ابْتِداءً; بلْ أُمِرْنا بِالْإِصْلاحِ بيْنهُمْ وأيْضًا, فلا يجُوزُ قِتالُهُمْ إذا كان الّذِين معهُمْ ناكِلِين عنْ الْقِتالِ فإِنّهُمْ كانُوا كثِيرِي الْخِلافِ عليْهِ ضعِيفِي الطّاعةِ لهُ، والْمقْصُودُ أنّ هذا الْحدِيث لا يُبِيحُ لعْن أحدٍ مِنْ الصّحابةِ, ولا يُوجِبُ فِسْقهُ، وأمّا (أهْلُ الْبيْتِ) فلمْ يُسبُّوا قطُّ، ولِلّهِ الْحمْدُ. انتهى.
وفي مواطن آخر بين رحمه الله ما حدث بين
عائشة وطلحة والزبير وعلي رضي الله عنهم وأن ذلك لاينفي فضلهم ولا يوجب لهم النار لأنهم مجتهدون فيما فعلوا حيث قال:
قدْ ثبت بِالنُّصُوصِ الصّحِيحةِ أنّ عُثْمان وعلِيًّا وطلْحة والزُّبيْر وعائِشة مِنْ أهْلِ الْجنّةِ، بلْ قدْ ثبت فِي الصّحِيحِ: أنّهُ لا يدْخُلُ النّار أحدٌ بايع تحْت الشّجرةِ، وأبُو مُوسى الْأشْعرِيُّ وعمْرُو بْنُ العاص ومُعاوِيةُ بْنُ أبِي سُفْيان هُمْ مِنْ الصّحابةِ ولهُمْ فضائِلُ ومحاسِنُ، وما يُحْكى عنْهُمْ كثِيرٌ مِنْهُ كذِبٌ; والصِّدْقُ مِنْهُ إنْ كانُوا فِيهِ مُجْتهِدِين، فالْمُجْتهِدُ إذا أصاب فلهُ أجْرانِ وإِذا أخْطأ فلهُ أجْرٌ وخطؤُهُ يُغْفرُ لهُ، وإِنْ قُدِّر أنّ لهُمْ ذُنُوبًا فالذُّنُوبُ لا تُوجِبُ دُخُول النّارِ مُطْلقًا إلّا إذا انْتفتْ الْأسْبابُ الْمانِعةُ مِنْ ذلِك وهِي عشْرةٌ، مِنْها: (التّوْبةُ ومِنْها الِاسْتِغْفارُ ومِنْها الْحسناتُ الْماحِيةُ ومِنْها الْمصائِبُ الْمُكفِّرةُ ومِنْها شفاعةُ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ومِنْها شفاعةُ غيْرِهِ ومِنْها دُعاءُ الْمُؤْمِنِين ومِنْها ما يُهْدى لِلْميِّتِ مِنْ الثّوابِ والصّدقةِ والْعِتْقِ ومِنْها فِتْنةُ الْقبْرِ ومِنْها أهْوالُ الْقِيامةِ، وقدْ ثبت فِي الصّحِيحيْنِ عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ قال: خيْرُ الْقُرُونِ الْقرْنُ الّذِي بُعِثْت فِيهِ ثُمّ الّذِين يلُونهُمْ ثُمّ الّذِين يلُونهُمْ. ، وحِينئِذٍ فمنْ جزم فِي واحِدٍ مِنْ هؤُلاءِ بِأنّ لهُ ذنْبًا يدْخُلُ بِهِ النّار قطْعًا فهُو كاذِبٌ مُفْترٍ، فإِنّهُ لوْ قال ما لا عِلْم لهُ بِهِ لكان مُبْطِلًا فكيْف إذا قال ما دلّتْ الدّلائِلُ الْكثِيرةُ على نقِيضِهِ؟ فمنْ تكلّم فِيما شجر بيْنهُمْ -وقدْ نهى اللّهُ عنْهُ: مِنْ ذمِّهِمْ أوْ التّعصُّبِ لِبعْضِهِمْ بِالْباطِلِ- فهُو ظالِمٌ مُعْتدٍ، وقدْ ثبت فِي الصّحِيحِ عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ قال: تمْرُقُ مارِقةٌ على حِينِ فِرْقةٍ مِنْ الْمُسْلِمِين تقْتُلُهُمْ أوْلى الطّائِفتيْنِ بِالْحقِّ. وقدْ ثبت عنْهُ فِي الصّحِيحِ أنّهُ قال عنْ الْحسنِ: إنّ ابْنِي هذا سيِّدٌ وسيُصْلِحُ اللّهُ بِهِ بيْن فِئتيْنِ عظِيمتيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِين. ، وفِي الصّحِيحيْنِ عنْ عمّار ٍ أنّهُ قال: تقْتُلُهُ الْفِئةُ الْباغِيةُ. وقدْ قال تعالى فِي الْقُرْآنِ: وإِنْ طائِفتانِ مِن الْمُؤْمِنِين اقْتتلُوا فأصْلِحُوا بيْنهُما فإِنْ بغتْ إحْداهُما على الْأُخْرى فقاتِلُوا الّتِي تبْغِي حتّى تفِيء إلى أمْرِ اللّهِ فإِنْ فاءتْ فأصْلِحُوا بيْنهُما بِالْعدْلِ وأقْسِطُوا إنّ اللّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِين ، فثبت بِالْكِتابِ والسُّنّةِ وإِجْماعِ السّلفِ على أنّهُمْ مُؤْمِنُون مُسْلِمُون وأنّ علِيّ بْن أبِي طالِبٍ والّذِين معهُ كانُوا أوْلى بِالْحقِّ مِنْ الطّائِفةِ الْمُقاتِلةِ لهُ. والله أعلم. انتهى.
والله أعلم.