الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبداية ننبه على أننا لم نجد هذا الأثر عن أم المؤمنين عائشة مسندا، وإنما ذكره الترمذي والبيهقي في سننيهما دون إسناد، وقد عزاه ابن قدامة وغيره للإمام أحمد، ولم نجده في شيء من كتبه المطبوعة.
وقال ابن الجوزي في (التحقيق في مسائل الخلاف): مسألة يصح إذن بنت بلغت تسع سنين في النكاح، خلافا لأكثرهم. ثم أسند من حديث ابن عمر مرفوعا: إذا أتى على الجارية تسع سنين فهي امرأة. وقال: في إسناده مجاهيل، منهم: عبد الملك، قال أبو أحمد بن عدي: هو مجهول غير معروف. اهـ.
وقال ابن عبد الهادي في (تنقيح التحقيق): عبد الملك هذا، هو: أبو هاشم الرِّقاعيُّ – بالقاف - يروي أحاديث منكرة، ولم يدركه محمَّد بن إسماعيل السلميُّ، بل قد سقط بينهما شيءٌ. والمشهور ما ذكره البخاريُّ عن عائشة أنَّها قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة. ورواه الإمام أحمد بإسناده عنها. اهـ.
وقال محققو كتاب التنقيح: لم نقف عليه في شيء من مصنفات الإمام أحمد ولا البخاري التي بين أيدينا. اهـ.
وقال الألباني في الإرواء: رواه الترمذى والبيهقي تعليقا بدون إسناد... اهـ. ثم أورد حديث ابن عمر المرفوع وضعفه.
وأما معنى هذا الأثر ودلالته، فيمكن الرجوع فيه للفتوى رقم: 196965.
وأما ما يتعلق به من الأحكام الفقهية فعدة مسائل، منها ما بوب به البيهقي في سننه فقال: (باب السن التي وجدت المرأة حاضت فيها) يعني أن التسع هو أقل سن يمكن أن تحيض فيه المرأة، وعليه فإن رأت الدم قبل ذلك فهو دم فساد لا حيض. ولذلك قال البيهقي بعد إيراد أثر عائشة: تعني ـ والله أعلم ـ فحاضت فهي امرأة. اهـ.
فعلم بذلك أن إدراك البنت لسن التاسعة لا يعني بلوغها حد التكليف الشرعي إلا إذا حاضت، فإذا رأت الدم لهذه السن كان حيضا ومِن ثَمَّ حُكم ببلوغها، قال ابن قدامة في (المغني): أقل سن تبلغ له الجارية تسع سنين، فكان ذلك أقل سن تحيض له، وقد روي عن عائشة أنها قالت: «إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة» وروي ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والمراد به: حكمها حكم المرأة، وهذا قول الشافعي... فعلى هذا إذا رأت بنت تسع سنين دما تركت الصلاة؛ لأنها رأته في زمن يصلح للحيض، فإن اتصل يوما وليلة فهو حيض، يثبت به بلوغها، ونثبت فيه أحكام الحيض كلها، وإن انقطع لدون ذلك، فهو دم فساد، لا يثبت به شيء مما ذكرنا. وإن رأت الدم لدون تسع سنين، فهو دم فساد على كل حال؛ لأنه لا يجوز أن يكون حيضا. اهـ.
ومن الأحكام المستفادة من هذا الأثر ما ذكره الترمذي لأجله، وهي مسألة اليتيمة التي بلغت تسع سنين، هل لغير أبيها وجدها أن يزوجها دون إذنها؟ وهل يعتبر رضاها؟ فعند أحمد وإسحاق: إذا رضيت بالزوج فالنكاح جائز ولا خيار لها إذا بلغت. فقد روى الترمذي حديث أبي هريرة مرفوعا: اليتيمة تستأمر في نفسها فإن صمتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها. يعني إذا أدركت فردت. وقال: حديث حسن، واختلف أهل العلم في تزويج اليتيمة، فرأى بعض أهل العلم أن اليتيمة إذا زوجت فالنكاح موقوف حتى تبلغ فإذا بلغت فلها الخيار في إجازة النكاح أو فسخه. وهو قول بعض التابعين وغيرهم. وقال بعضهم: لا يجوز نكاح اليتيمة حتى تبلغ، ولا يجوز الخيار في النكاح. وهو قول سفيان الثوري والشافعي وغيرهما من أهل العلم. وقال أحمد وإسحق: إذا بلغت اليتيمة تسع سنين فزوجت فرضيت فالنكاح جائز، ولا خيار لها إذا أدركت. واحتجا بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بها وهي بنت تسع سنين. وقد قالت عائشة: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة. اهـ.
وقال البغوي في (شرح السنة): اتفق أهل العلم على أنه يجوز للأب والجد تزويج البكر الصغيرة، لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت سبع، واختلفوا في اليتيمة إذا زوجها غير الأب والجد، فذهب جماعة إلى أن النكاح صحيح، ولها الخيار إذا بلغت في فسخ النكاح أو إجازته، وهو قول أصحاب الرأي، وذهب قوم إلى أن النكاح مردود، وهو قول الشافعي، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: «اليتيمة تستأمر»، واليتيمة اسم للصغيرة التي لا أب لها، وهي قبل البلوغ لا معنى لإذنها، ولا عبرة لإبائها، فكأنه شرط بلوغها، ومعناه: لا تنكح حتى تبلغ فتستأمر، وذهب أحمد إلى أن اليتيمة إذا بلغت تسع سنين، جاز لغير الأب والجد تزويجها برضاها، ولا خيار لها، ولعله قال ذلك لما علم أن كثيرا من نساء العرب يدركن إذا بلغن هذا السن، قالت عائشة: «وإذا بلغت الجارية تسع سنين، فهي امرأة». اهـ.
وقال ابن قدامة في (المغني): إذا بلغت الجارية تسع سنين، ففيها روايتان؛ إحداهما: أنها كمن لم تبلغ تسعا، نص عليه في رواية الأثرم. وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وسائر الفقهاء، قالوا: حكم بنت تسع سنين، حكم بنت ثمان؛ لأنها غير بالغة، ولأن إذنها لا يعتبر في سائر التصرفات، فكذلك في النكاح، والرواية الثانية، حكمها حكم البالغة، نص عليه في رواية ابن منصور؛ لمفهوم الآية، ودلالة الخبر بعمومها على أن اليتيمة تنكح بإذنها، وإن أبت فلا جواز عليها، وقد انتفى به الإذن في من دونها، فيجب حمله على من بلغت تسعا، وقد روى الإمام أحمد بإسناده عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة، ورواه القاضي بإسناده عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: في حكم المرأة، ولأنها بلغت سنا يمكن فيه حيضها، ويحدث لها حاجة إلى النكاح، فيباح تزويجها كالبالغة، فعلى هذا إذا زوجت ثم بلغت، لم يكن لها خيار، كالبالغة إذا زوجت. اهـ.
ومن هذه الأحكام أيضا: مسألة السن الذي تصير به البنت في حكم المرأة في الكفن، قال ابن قدامة في (المغني): اختلفت الرواية عن أحمد في الحد الذي تصير به في حكم المرأة في الكفن، فروي عنه: إذا بلغت. وهو ظاهر كلامه في رواية المروذي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» مفهومه أن غيرها لا تحتاج إلى خمار في صلاتها، فكذلك في كفنها، ولأن ابن سيرين كفن ابنته، وقد أعصرت ـ أي قاربت المحيض ـ بغير خمار. وروى عن أحمد أكثر أصحابه: إذا كانت بنت تسع يصنع بها ما يصنع بالمرأة. واحتج بحديث عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بها وهي بنت تسع سنين»، وروي عنها أنها قالت: إذا بلغت الجارية تسعا فهي امرأة. اهـ.
والله أعلم.