الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا بأس بإعطاء الدائن مدينَه من الزكاة ليسدد به ديونه التي عليه لغير المزكِّي، وكذا ليسدد الغارم عن نفسه دينه الذي للمزكي، لكن بشرط أن يُقبضه إياه، ومن غير أن يشترط عليه أن يردها عليه عن الدين، أما إن لم يقبضه إياه، بل أبرأه مما له عليه في ذمته.. لم يجزئ، وهو قول جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وكذا إن أقبضه بشرط أن يرده عن الدين.. لم يجزئ عن الزكاة، وهو قول أكثر أهل العلم، قال النووي ـ رحمه الله ـ في المجموع: إذا كان لرجل على معسرٍ دين، فأراد أن يجعله عن زكاته، وقال له: جعلته عن زكاتي، فوجهان حكاهما صاحب البيان أصحهما: لا يجزئه، وبه قطع الصيمري، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد؛ لأن الزكاة في ذمته فلا يبرأ إلا بإقباضها... أما إذا دفع الزكاة إليه بشرط أن يردها إليه عن دينه، فلا يصح الدفع، ولا تسقط الزكاة بالاتفاق ـ أي بين أصحاب الشافعي ـ ولا يصح قضاء الدين بذلك بالاتفاق... ولو نويا ذلك ولم يشرطاه جاز بالاتفاق ـ أي بين أصحاب الشافعي ـ وأجزأه عن الزكاة، وإذا رده إليه عن الدين برئ منه. اهـ.
ويُجتَنَبُ التواطؤ على أن يرد إليه المال عن دينه، فقد اتفق فقهاء المالكية على أنه إن كان بتواطؤٍ، واتفاقٍ بينهما لم يجزئ، ولو بلا شرطٍ، وهو مذهب الحنابلة، لكن نصَّ الحنابلة على أنه إن قصد بذلك نفع نفسه، وصيانةَ ماله، واستيفاء دينه.. لم يَجُز ذلك، وهذا بخلاف ما إذا أعطاه لكونه من الغارمين مطلقًا، أو لسبب آخر، كأن يقصد نفع هذا الغارم بعينه، والتخفيف عن ظهره، لقرابةٍ، أو نحوها ما لم يُسقط به عن نفسه حقًّا ماليًا للمعطَى، فينفع بذلك نفسه، أو يكون حيلةً، كما قال العلامة البهوتي الحنبلي في الكشاف ممزوجًا بمتن الإقناع: ويجوز أيضًا دفع الزكاة إلى غريمه؛ لأنه من جملة الغارمين؛ ليقضي بها دينه، سواء دفعها إليه ابتداء قبل الاستيفاء، أو استوفى حقه ثم دفعها إليه ليقضي دين المقرِض ما لم يكن حيلةً، نصاً، قال أحمد: إن كان حيلة فلا يعجبني، ونقل عنه ابن القاسم: إن أراد الحيلة لم يصلح، ولا يجوز، وقال أيضاً: إن أراد إحياء مالِه لم يجز، وقال القاضي، وغيره: معنى الحيلة: أن يعطيه بشرط أن يردها عليه من دينه؛ لأن مِن شرطِها تمليكًا صحيحًا، فإذا شرط الرجوع لم يوجد، وقال في المغني، والشرح: إنه حصل من كلام أحمد: إذا قصد بالدفع إحياء ماله، واستيفاء دينه، لم يجز؛ لأن الزكاة حق الله، فلا يجوز صرفها إلى نفعه، وإن رد الغريم من نفسه ما قبضه وفاءً عن دينه من غير شرط، ولا مواطأة جاز لرب المال أخذُه من دَينه؛ لأنه بسبب متجدد، كالإرث، والهبة. اهـ.
والراجح ـ إن شاء الله ـ جواز أن يعطيه بذلك القصد ما لم يشترط عليه، أو يتفقا ويتواطآ، فإنه لا يعدو عن كونه رجاءً قلبيًا، ولا يكون الغارم ملزمًا أن يسدد منه للمزكي، بل له أن يصرفه لسداد ديونٍ لآخرين، وأنت تريد أن تعطي هذا الصديق من الزكاة ليسدد ديونه التي لغيرك، فلا حرج في ذلك على الراجح ـ إن شاء الله ـ ولكن ينبغي التنبه إلى أن في نقل الزكاة من بلد المال خلافًا في جوازه، وفي إجزائه، والراجح عندنا الجواز، لا سيما عند وجود المصلحة الراجحة، وإن كان الأحوط عدم نقلها ما دام في البلد محتاجون، أو غيرهم من مصارف الزكاة، كالغارمين، وقد جاء في مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: سئل فضيلة الشيخ -رحمه الله تعالى-: هل يجوز نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر؟
فأجاب فضيلته بقوله: نعم يجوز نقل الزكاة من بلد إلى بلد أخرى، ولكن الأفضل أن يفرقها في بلده، إلا إذا كان في النقل مصلحة، مثل أن يكون له أقارب في بلد آخر من أهل الزكاة، فيريد أن ينقلها إليهم، أو يكون البلد الآخر أكثر حاجة من بلده، فينقلها إليهم؛ لأنهم أحوج، فإن هذا لا بأس به، وإلا فالأفضل أن يفرقها في بلده. انتهى.
وقد بينا تفصيل الخلاف في هذه المسألة في الفتوى رقم: 12533.
ولمعرفة القدرِ الذي يُعطاه الغارمُ من الزكاة، ومعرفةِ الغارمِ الذي يجوز إعطاؤه من الذي لا يجوز إعطاؤه مطلقًا، راجع الفتوى رقم: 23855، وما أحيل عليه فيها.
والله أعلم.