الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاختلاف الحكم وكيفية المعاملة لبني قريظة عما سبقها في بني قينقاع ثم بني النضير، كان لاختلاف الأحوال وآثار الأفعال، وتفاوت العداء والإجرام. ثم إن بعض أكابر المجرمين من بني النضير كرئيسهم حيي بن أخطب وأمثاله، لم يرتدعوا بالإجلاء عن المدينة، بل سعوا في تحزيب الأحزاب وتأليب القبائل، ودخلوا مع بني قريظة وحملوهم على الغدر.
وقد ذكر ابن القيم في (زاد المعاد) مصالحة النبي -صلى الله عليه وسلم- لطوائف اليهود بالمدينة، وما جرى على بني قينقاع ثم على بني النضير من الإجلاء من المدينة، بعد غدرهم ومحاربتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، ثم قال: وأما قريظة: فكانت أشد اليهود عداوة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأغلظهم كفرًا، ولذلك جرى عليهم ما لم يجر على إخوانهم. وكان سبب غزوهم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما خرج إلى غزوة الخندق والقوم معه صلح، جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة في ديارهم، فقال: قد جئتكم بعز الدهر، جئتكم بقريش على سادتها، وغطفان على قادتها، وأنتم أهل الشوكة والسلاح، فهلم حتى نناجز محمدًا ونفرغ منه ... اهـ.
وقال اللواء الركن/ محمود شيت خطاب -رحمه الله- في كتابه (الرسول القائد): القصاص العادل الذي أصاب بني قريظة بعد استسلامهم، يقرّه كلّ إنسان واقعي سليم التفكير منصف. لقد طعن يهود المسلمين في أحرج وقت من أوقات محنتهم، ولو لم يكن هناك عهد بينهم وبين المسلمين لهان الخطب ولوجدنا بعض العذر لهم، ولكنّ أي عذر لهم وقد خانوا العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين في مثل تلك الظروف العصيبة؟
وأحب أن أتساءل: لو نجح الأحزاب في غزوة الخندق، فماذا كانوا يفعلون بالمسلمين؟ ألم تكن عاقبة المسلمين الإبادة والتمثيل؟ فلماذا لا يبيدون الذين حاولوا معاونة أعدائهم على إبادتهم؟ لقد أفسح المسلمون المجال أمام بني قينقاع وبني النضير من يهود للجلاء إلى (خيبر) وإلى ضواحي الشام، فماذا كانت النتيجة؟ أثار يهود الذي عفا عنهم النبي -صلّى الله عليه وسلم- الأحزاب وحشدوهم أمام خندق المدينة للقضاء على المسلمين. ومع ذلك فالموقف جدّ مختلف بين موقف يهود الذين خانوا عهودهم في غزوة الخندق وبين يهود بني قريظة؛ إذ أن خيانة هؤلاء ونكثهم عهودهم كان في أحرج الأوقات وأشدها خطورة على مستقبل الإسلام والمسلمين ... فهل يبقي المسلمون سلمًا على بني قريظة أيضًا ليقوموا بدور أسلافهم بني قينقاع وبني النضير؟ اهـ.
وبهذا يتبين أن حكم سعد بن معاذ -رضي الله عنه- في بني قريظة كان مقتضى العدل والحكمة، ويكفي أنه وافق فيه حكم الله تعالى، كما قال رسول -صلى الله عليه وسلم- بعد حكمه: قضيت بحكم الله. وربما قال: بحكم الملك. رواه البخاري، ومسلم.
ومع ذلك فقد جاء هذا الحكم موافقًا أيضًا لحكم التوراة التي بأيدي اليهود؛ جاء في كتاب (صحيح الأثر وجميل العبر من سيرة خير البشر -صلى الله عليه وسلم-): إن يهود بني قريظة عُوقبوا بجنس ما كانوا يريدون فعله بالمسلمين لو انتصر الأحزاب، وهذا الحكم موافق لما صرحت به توراتهم، في حق العدو المهزوم؛ ففي سفر التثنية، الإِصحاح 13، فقرة 13، 14: (وإذا دفعها الرب إِلهك إِلى يدك فاضرب جميع ذكورهم بالسيف، وأما النساء والأطفال والبهائم، وكل ما في المدينة، كل غنيمتها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إِلهك). وهكذا فإِن ما حكم به سعد -رضي الله عنه- لم يخرج عما حكمت به التوراة، وهم ليسوا أعداء مهزومين فحسب، بل خائنون غادرون، غير وافين بالعهد. وقد أقره النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأخبره أنه موافق لحكم الله. اهـ.
وقال الدكتور/ خالد الشنيبر في بحثه (الحرب وأخلاقياتها في الإسلام) المنشور في (مجلة البحوث الإسلامية) في بيان سبب هذا الحكم:
أولًا: ماذا لو أن نتيجة غزوة الأحزاب تمت حسبما كان يخطط لها بنو قريظة وأحزابهم؟ ألم تكن هي الإبادة التامة للمسلمين أجمعين. لقد ظن اليهود أن هذا هو طريق تدمير الكيان الإسلامي تدميرًا كاملًا، واستئصال شأفة المسلمين استئصالًا كليًّا.
ثانيا: إن قانون الدول المعاصرة يحكم بالإعدام على من يخون وطنه ويقيم اتصالات مع العدو أو يتجسس لحسابه، ولو درس الذين يطعنون في حكم سعد على بني قريظة القوانين المعاصرة دراسة نافذة وطبقوها على قضية بني قريظة لرأوا أن قوانين العصر الحديث والدول المتقدمة لا تختلف في شيء عما أصدره سعد بن معاذ.
ثالثًا: أن هذه العقوبة الجماعية الفريدة التي سببها الخيانة العظمة من قريظة؛ لم تكن مستغربة في أذهان اليهود، والذين يقرؤون في التوراة عن "تشريعات" الحرب الإسرائيلية التي تحث على قتل الرجال والنساء والأطفال، وأحيانًا حيوانات الأعداء ... اهـ.
وقال قبل ذلك عن اختيار النبي -صلى الله عليه وسلم- لسعد للقيام بهذه المهمة: وفي اختياره دلالة على حكمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبُعد نظره، وإدراكه لنفسيات يهود قريظة؛ لأن سعدًا كان حليف بني قريظة في الجاهلية، قد ارتاح اليهود لهذا الاختيار، وظنّوا أن الرجل قد يحابيهم في حكمه، لكنَّ سعدًا نظر إلى الموقف من جميع جوانبه، وقدره تقدير من عاش أحداثه وظروفه. اهـ.
والمقصود أن حكم سعد لم يكن عملًا بحكم التوراة، وإن كان جاء موافقًا له.
ثم إن أهل الكتاب إن تحاكموا إلينا لا يسعنا أن نحكم بينهم بشريعتهم، بل إن حكمنا فلا بد أن نحكم بشريعتنا نحن، كما قال تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]. وراجع في ذلك الفتويين: 152283، 179609.
والله أعلم.