الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فرواية الشيخين، أو أحدهما عن مجروح، مسألة قد جاوزت زمانها بحثا وتصنيفا! فليس هناك من راو في الصحيحين، أو أحدهما، ثبت فيه شيء من الجرح، إلا وقد ذكر أهل العلم سبب ذلك، ووجهه. وبحسب السائل أن يرجع إلى مقدمة الحافظ ابن حجر لشرح صحيح البخاري (هدي الساري) فسيجد فصلا خاصا في سياق أسماء من طعن فيه من رجال هذا الكتاب، مرتبا لهم على حروف المعجم، والجواب عن الاعتراضات موضعا موضعا، وتمييز من أخرج له منهم في الأصول، أو في المتابعات، والاستشهادات، مفصلا لذلك جميعه.
قال الحافظ قبل الشروع في ذلك: قبل الخوض فيه، ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان، مقتض لعدالته عنده، وصحة ضبطه، وعدم غفلته، ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في الصحيح، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما، هذا إذا خرج له في الأصول، فأما إن خرج له في المتابعات، والشواهد، والتعاليق، فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره، مع حصول اسم الصدق لهم. وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعنا، فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام، فلا يقبل إلا مبين السبب، مفسرا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي، وفي ضبطه مطلقا، أو في ضبطه لخبر بعينه؛ لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة، منها ما يقدح، ومنها ما لا يقدح، وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح: هذا جاز القنطرة! يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه. قال الشيخ أبو الفتح القشيري في مختصره: وهكذا نعتقد، وبه نقول، ولا نخرج عنه إلا بحجة ظاهرة، وبيان شاف ... اهـ.
فراجع كلام الحافظ على كل راو؛ لتقف على رد مفصل، فيه سرد لكل من جرح، ممن أخرج لهم البخاري.
وكذلك يمكن الرجوع لكلام الحافظ أبي عمرو ابن الصلاح في كتاب (صيانة صحيح مسلم) فقد عقد فيه فصلا خاصا بذلك.
قال فيه: عاب عائبون مسلما بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء، أو المتوسطين، الواقعين في الطبقة الثانية، الذين ليسوا من شرط الصحيح أيضا. والجواب أن ذلك لأحد أسباب، لا معاب عليه معها:
أحدها: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره، ثقة عنده. ولا يقال: إن الجرح مقدم على التعديل، وهذا تقديم للتعديل على الجرح؛ لأن الذي ذكرناه محمول على ما إذا كان الجرح غير مفسر السبب، فأنه لا يعمل به ... ويحتمل أيضا أن يكون ذلك فيما بين الجارح فيه السبب، واستبان مسلم بطلانه. الثاني: أن يكون ذلك واقعا في الشواهد والمتابعات، لا في الأصول، وذلك بأن يذكر الحديث أولا بإسناد نظيف، رجاله ثقات، ويجعله أصلا، ثم يتبع ذلك بإسناد آخر، أو أسانيد فيها بعض الضعفاء، على وجه التأكيد بالمتابعة، أو لزيادة فيه تنبه على فائدة فيما قدمه ...
الثالث: أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به، طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حدث عليه، غير قادح فيما رواه من قبل في زمان سداده، واستقامته ... الرابع: أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده، وهو عنده برواية الثقات نازل، فيذكر العالي، ولا يطول بإضافة النازل إليه، مكتفيا بمعرفة أهل الشأن بذلك. اهـ.
وقد ذكر خلال ذلك أمثلة لبعض الرواة ممن ورد ذكرهم في السؤال.
وختم ابن الصلاح كلامه بقوله: وفيما ذكرته، دليل على أن من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في صحيحه، بأنه من شرط الصحيح عند مسلم، فقد غفل وأخطأ، بل ذلك يتوقف على النظر في أنه كيف روى عنه، وعلى أي وجه روى عنه، على ما بيناه من انقسام ذلك. اهـ.
وأخيرا ننبه على أن الأسماء الواردة في السؤال، منها ما ليس من رجال الشيخين، بل ولا حتى من رجال الكتب الستة! مثل: ناصح بن العلاء، فإنه لم يخرج له أحد من الستة. كما رمز له في التقريب وقال: لين الحديث. اهـ. وقال الذهبي في تاريخه: ما خرجوا له شيئا. اهـ.
ومنهم من لا مطعن في عدالته ولا ضبطه، وإنما تكلم فيه بغير حجة البتة. مثل: روح بن عبادة البصري، وهو من رجال الشيخين.
قال الذهبي في الكاشف: الحافظ، صنف الكتب، وكان من العلماء. اهـ.
وقال ابن حجر في التقريب: ثقة فاضل له تصانيف. اهـ.
والله أعلم.