الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالتوكل أعم من الأسباب، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في مدارج السالكين: وَحَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ: الْقِيَامُ بِالْأَسْبَابِ، وَالِاعْتِمَادُ بِالْقَلْبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، وَاعْتِقَادُ أَنَّهَا بِيَدِهِ، فَإِنْ شَاءَ مَنَعَهَا اقْتِضَاءَهَا، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهَا مُقْتَضِيَةً لِضِدِّ أَحْكَامِهَا، وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ لَهَا مَوَانِعَ وَصَوَارِفَ تُعَارِضُ اقْتِضَاءَهَا وَتَدْفَعُهُ. انتهى.
فتبين أن حقيقة التوكل مركبة من ثلاثة أشياء: أحدها: القيام بالأسباب، والآخران: اعتماد القلب على الله، واعتقاد أن الأسباب بيده سبحانه.
والتوكل والأخذ بالأسباب متلازمان لا ينفكان، ولا يغني أحدهما عن الآخر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في مجموع الفتاوى: مَنْ ظَنَّ أَنَّ التَّوَكُّلَ يُغْنِي عَنْ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا، فَهُوَ ضَالٌّ، وَهَذَا كَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَتَوَكَّلُ عَلَى مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ مِن السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ بِدُونِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا سُئِلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ؟ فَقَالَ: لَا؛ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ـ وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ: أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فِيهِ وَيَكْدَحُونَ أَفِيمَا جَفَّتْ الْأَقْلَامُ وَطُوِيَتْ الصُّحُفُ؟ وَلَمَّا قِيلَ لَهُ: أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ؟ قَالَ: لَا؛ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ. انتهى.
وقال ابن القيم: الْأَسْبَابُ مَحَلُّ حِكْمَةِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَدِينِهِ، وَالتَّوَكُّلُ مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَلَا تَقُومُ عُبُودِيَّةُ الْأَسْبَابِ إِلَّا عَلَى سَاقِ التَّوَكُّلِ، وَلَا يَقُومُ سَاقُ التَّوَكُّلِ إِلَّا عَلَى قَدَمِ الْعُبُودِيَّةِ. انتهى.
والتوكل على الله يجب أن تنتفي عنه علتان تتعلقان به من جهة الأسباب، وهما: الاعتماد على الأسباب، أو ترك المأمور به منها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في منهاج السنة: وَالْعِلَلُ الَّتِي تُنْفَى نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَعْتَمِدَ عَلَى الْأَسْبَابِ وَتَتَوَكَّلَ عَلَيْهَا، وَهَذَا شِرْكٌ مُحَرَّمٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَتْرُكَ مَا أَمِرْتَ بِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا أَيْضًا مُحَرَّمٌ، بَلْ عَلَيْكَ أَنْ تَعْبُدَهُ بِفِعْلِ مَا أَمَرَكَ بِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَعَلَيْكَ أَنْ تَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي أَنْ يُعِينَكَ عَلَى مَا أَمَرَكَ بِهِ، وَأَنْ يَفْعَلَ هُوَ مَا لَا تَقْدِرُ أَنْتَ عَلَيْهِ بِدُونِ سَبَبٍ مِنْكَ. انتهى.
وقال ابن القيم في المدارج: الِالْتِفَاتُ إِلَى الْأَسْبَابِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: شِرْكٌ، وَالْآخَرُ: عُبُودِيَّةٌ وَتَوْحِيدٌ، فَالشِّرْكُ: أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهَا وَيَطْمَئِنَّ إِلَيْهَا، وَيَعْتَقِدَ أَنَّهَا بِذَاتِهَا مُحَصِّلَةٌ لِلْمَقْصُودِ، فَهُوَ مُعْرِضٌ عَنِ السَّبَبِ لَهَا، وَيَجْعَلُ نَظَرَهُ وَالْتِفَاتَهُ مَقْصُورًا عَلَيْهَا، وَأَمَّا إِنِ الْتَفَتَ إِلَيْهَا الْتِفَاتَ امْتِثَالٍ وَقِيَامٍ بِهَا وَأَدَاءٍ لِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ فِيهَا، وَإِنْزَالِهَا مَنَازِلَهَا: فَهَذَا الِالْتِفَاتُ عُبُودِيَّةٌ وَتَوْحِيدٌ، إِذْ لَمْ يَشْغَلْهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُسَبِّبِ، وَأَمَّا مَحْوُهَا أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا: فَقَدْحٌ فِي الْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَالْفِطْرَةِ، فَإِنْ أَعْرَضَ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ: كَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي الشَّرْعِ، وَإِبْطَالًا لَهُ. انتهى.
فهذه بعض الفروق التي تتعلق بالتوكل والأسباب نرجو أن يتضح معها الخط الفاصل بينهما، وللفائدة يرجى مراجعة هذه الفتاوى التالية أرقامها: 44824، 53203، 161241.
والله أعلم.