الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا بد من التفريق بين من يكره بعض لوازم تطبيق الشريعة من حيث الطبع، بالنظر إلى حرمانه من بعض شهواته وملذاته المحرمة، ولكنه مع ذلك لا يعترض، ولا يعارض، بل يرضى ويُسلّم، ويُقرُّ ويذعن، وبين من يكره ما أنزل الله تعالى وينكره، بل ويعاديه، ويسعى في إزاحته عن واقع حياة الناس، فالأول مع ما فيه من سوء معه أصل الإيمان، وأما الثاني ـ والعياذ بالله ـ فقد نقض إيمانه، وفقد أصله، وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نواقض الإسلام: من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو عمل به، فقد كفر؛ لقوله تعالى: ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم {محمد: 9}. اهـ.
وراجعي الفتويين رقم: 117552، ورقم: 301288.
ولمزيد الإيضاح نقول: قد يكره المرء من حيث الطبع أثر حكم شرعي، ومع ذلك يقبله، وينقاد له، كما يمكن أن يحب شيئًا حبًّا شرعيًّا مع استثقاله، فلا يتعارض الكره طبعًا مع القبول شرعًا، ولا المحبة طبعًا مع الإنكار شرعًا، فقد تحب النفس معصية، وتميل إليها طبعًا وجبلةً، وتنكرها وترفضها شرعًا وديانة، وقد تكره طاعة وتنفر عنها طبعًا وجبلة، وتقبلها وتقبل عليها شرعًا وديانة، قال ابن القيم في شفاء العليل: الشيء قد يكون محبوبًا مرضيًّا من جهة، ومكروهًا من جهة أخرى، كشرب الدواء النافع الكريه، فإن المريض يرضى به مع شدة كراهته له، وكصوم اليوم الشديد الحر، فإن الصائم يرضى به مع شدة كراهته له، وكالجهاد للأعداء، قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ـ فالمجاهد المخلص يعلم أن القتال خير له، فرضي به وهو يكرهه؛ لما فيه من التعرض لإتلاف النفس، وألمها، ومفارقة المحبوب، ومتى قوي الرضا بالشيء وتمكن انقلبت كراهته محبة، وإن لم يخل من الألم، فالألم بالشيء لا ينافي الرضا به، وكراهته من وجه لا ينافي محبته، وإرادته، والرضا به من وجه آخر. اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين في تفسير سورة البقرة، عند قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ {البقرة:216} الضمير ـ هو ـ يعود على القتال، وليس يعود على الكتابة، فإن المسلمين لا يكرهون ما فرضه الله عليهم، وإنما يكرهون القتال بمقتضى الطبيعة البشرية، وفرق بين أن يقال: إننا نكره ما فرض الله من القتال وبين أن يقال: إننا نكره القتال، فكراهة القتال أمر طبيعي، فإن الإنسان يكره أن يقاتل أحدًا من الناس فيقتله، فيصبح مقتولًا، لكن إذا كان هذا القتال مفروضًا علينا صار محبوبًا إلينا من وجهٍ، ومكروهًا لنا من وجهٍ آخر، فباعتبار أن الله فرضه علينا يكون محبوبًا إلينا؛ ولهذا كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يصرون أن يقاتلوا، وباعتبار أن النفس تنفر منه يكون مكروهًا إلينا. اهـ.
ثم ذكر الشيخ في فوائد الآية: أنه لا حرج على الإنسان إذا كره ما كتب عليه، لا كراهته من حيث أمَر الشارع به، ولكن كراهته من حيث الطبيعة، أما من حيث أمر الشارع به فالواجب الرضا، وانشراح الصدر به. اهـ.
وقال في تفسير سورة الكوثر: من أبغض شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام، أو أبغض شعيرة من شعائر الإسلام، أو أبغض أي طاعة مما يتعبد به الناس في دين الإسلام، فإنه كافر، خارج عن الدين؛ لقول الله تعالى: ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم {محمد: 9} ولا حبوط للعمل إلا بالكفر، فمن كره فرض الصلوات، فهو كافر، ولو صلى، ومن كره فرض الزكاة، فهو كافر، ولو زكى، لكن من استثقلها مع عدم الكراهة، فهذا فيه خصلة من خصال النفاق، لكنه لا يكفر، وفرق بين من استثقل الشيء ومن كره الشيء. اهـ.
وقال في موضع آخر: فرق بين أن يكره الإنسان حكم الله، أو أن يكره المحكوم به. اهـ.
والله أعلم.