الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن ما وقع في عهد الصحابة من القتال، أو تركه، كان باجتهاد منهم، والذي ينبغي لنا هو أن نكف عما شجر بينهم، وأن نعقد قلوبنا على محبتهم، ونطلق ألسنتنا بالثناء عليهم، وعدم تنقص أحد منهم، مع معرفة الفضل للفاضل، مع القطع بأنهم كانوا غير معصومين، ولكن ما يقع منهم من الخطأ هو باجتهاد مغفور ـ إن شاء الله ـ
فنوصيك -إن أردت السلامة في دينك- بالإمساك عما شجر بين الصحابة، والاشتغال بإشاعة فضائلهم، وإذاعة مناقبهم في العالمين، ونؤكد هنا أن على المسلم في هذا العصر أن يهتم بإصلاح نفسه، وإصلاح مجتمعه، وإصلاح عصره، وأن يكف عن الصحابة والبحث عن أخطائهم؛ لأنهم أفضوا إلى ما قدموا، وقد رضي الله عنهم وزكاهم، وعدلهم في كتابه، وأثنى عليهم.
هذا ما نقرره فيما يتعلق بما شجر بين الصحابة، وقد نقنا كلام الإمام النووي الذي ذكرته مختصرا في فتاوى سابقة، قررنا فيها الإمساك عما شجر بين الصحابة، كالفتوى رقم: 64160، والفتوى رقم: 188403، والفتوى رقم: 214609 .
وأما ما جاء من ندم ابن عمر -رضي الله عنه- على تركه القتال مع علي -رضي الله عنه- فقد نقله جمع من الأئمة، ونص بعضهم على صحة نسبته إليه.
قال ابن عبد البر في الاستيعاب: وصح عن عَبْد الله بن عمر -رضي الله عنهما- من وجوه أنه قَالَ: ما آسى على شيء، كما آسى أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي رضي الله عنه. اهـ.
ويرى بعض العلماء أن المراد بالقتال الذي ندم ابن عمر على تركه مع علي، هو ما حصل من قتال بين علي وبين غيره من الصحابة -رضي الله عنهم-
قال القرطبي: وقيل: إن من توقف من الصحابة، حملوا الأحاديث الواردة بالكف على عمومها، فاجتنبوا جميع ما وقع بين الصحابة من الخلاف والقتال، وربما ندم بعضهم على ترك ذاك كعبد الله بن عمر، فإنه ندم على تخلفه عن نصرة علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-، فقال عند موته: ما آسى على شيء، ما آسى على تركي قتال الفئة الباغية، يعني فئة معاوية، وهذا هو الصحيح. إن الفئة الباغية إذا علم منها البغي قوتلت.اهـ. من التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة.
بينما يرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن مراد ابن عمر بالقتال الذي ندم على تركه، إنما هو قتال الخوارج، وليس القتال الذي حدث بين الصحابة.
قال ابن تيمية: واتفقت الصحابة على قتال الخوارج، حتى إنّ ابن عمر مع امتناعه عن الدخول في فُرقة -كسعد، وغيره من السابقين؛ ولهذا لم يبايعوا لأحدٍ إلا في الجماعة- قال عند الموت: ما آسى على شيء، إلا على أني لم أقاتل الطائفة الباغية مع علي رضي الله عنه؛ يريد بذلك قتال الخوارج، وإلا فهو لم يبايع؛ لا لعلي، ولا غيره، ولم يبايع معاوية إلا بعد أن اجتمع الناس عليه. فكيف يقاتل إحدى الطائفتين؟ وإنّما أراد المارقة التي قال فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم: "تمرُق مارقة على حين فرقةٍ من الناس، يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق". وهذا حدَّث به أبو سعيد، فلما بلغ ابن عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج، وأمره بقتالهم، تحسّر على ترك قتالهم . اهـ. من النبوات. وقد قيل في معناه غير ذلك.
والله أعلم.