الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن حديث: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. إلى آخره. رواه الإمام مسلم, وغيره.
والمقصود بالقوة في هذا الحديث، أوضحه الإمام النووي في شرح صحيح مسلم حيث يقول: والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس، والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداما على العدو في الجهاد، وأسرع خروجا إليه، وذهابا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة والصوم، والأذكار وسائر العبادات، وأنشط طلبا لها، ومحافظة عليها ونحو ذلك. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: وفي كل خير، فمعناه: في كل من القوي والضعيف خير؛ لاشتراكهما في الإيمان، مع ما يأتي به الضعيف من العبادات. انتهى.
أما الحديث الثاني، فقد رواه مسلم بلفظ: .. رب أشعث، مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره. وعند الترمذي بلفظ: كم من أشعث، أغبر، ذي طمرين، لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك. رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني فى صحيح الجامع.
وهذا الحديث يقول عنه المناوي في فيض القدير: (أشعث) أي ثائر الشعر مغبره، قد أخذ فيه الجهد حتى أصابه الشعث، وغلبته الغبرة. قال القاضي: الأشعث المغبر الرأس، المتفرق الشعر، وأصل التركيب هو التفرقة، والانتشار (مدفوع بالأبواب) أي يدفع عند إرادته الدخول على الأعيان، والحضور في المحافل، إما باللسان، أو باليد واللسان؛ احتقارا له، فلا يترك أن يلج الباب، فضلا أن يقعد معهم، ويجلس بينهم (لو أقسم) حلف (على الله) ليفعل شيئا (لأبره) أي أبر قسمه، وأوقع مطلوبه، إكراما له، وصونا ليمينه عن الحنث؛ لعظم منزلته عنده، أو معنى القسم الدعاء، وإبراره إجابته. إنما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم ذلك، ليبصرك مراتب الشعث الغبر، الأصفياء الأتقياء، ويرغبك في طلب ما طلبوا، وينشطك تقديم ما قدموا، ويثبطك عن الطمع الفارغ، والرجاء الكاذب، ويعلمك أن الزينة إنما هي بلباس التقوى. انتهى.
وبناء على ما جاء في تفسير الحديثين السابقين, فقد تبين أنه لا تعارض بينهما، ومن فسر القوة في الحديث الأول بأنها قوة البدن فهو مخطئ, لكن القوة منها ما هو ممدوح كالقوة في كل ما يتعلق بطاعة الله تعالى، وشدة العزيمة على ذلك, ومنها ما هو مذموم كاستخدام القوة في أذية المسلمين, وقهرهم, والتجبر عليهم, فهذا محرم, كما أن من الضعف منه ما هو ممدوح, ومنه ما هو مذموم.
يقول المناوي في فيض القدير: وما على منواله: " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" قد وقع التعارض ظاهرا بينه، وبين خبر مسلم: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله، من المؤمن الضعيف، وفي كل خير " وعند التأمل لا تدافع، إذ المراد بمدح القوة، القوة في ذات الله، وشدة العزيمة. وبمدح الضعف، لين الجانب، ورقة القلب، والانكسار بمشاهدة جلال الجبار، أو المراد بذم القوة التجبر والاستكبار، وبذم الضعف، ضعف العزيمة في القيام بحق الواحد القهار، على أنه لم يقل هنا أنهم ينصرون بقوة الضعفاء، وإنما مراده بدعائهم، أو بإخلاصهم، أو نحو ذلك مما مر. انتهى.
والله أعلم.