الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن المقطع المذكور جزء من الآية الكريمة: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200]. وهذه الآية جاءت في سياق الحديث عن الحج وأعماله، وتصحيح المفاهيم والأخطاء التي يرتبكها أهل الجاهلية.
وفي هذا السياق يذكر المولى -سبحانه وتعالى- فريقين من الناس؛ فريق همه الدنيا حريص عليها ومشغول بها، لا يذكر من أمر الآخرة شيئًا، فهؤلاء قد يعطيهم الله تعالى نصيبًا من الدنيا ولكن لا نصيب لهم في الآخرة؛ لأنهم يقتصرون في دعائهم على الدنيا فقط فيقولون: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا.
أما الفريق الثاني فهو أكبر نفوسًا وأعلى همة وأبعد نظرًا وأعمق تفكيرًا؛ لأنه موصول بالله تعالى، يريد الحسنة في الدنيا ولا ينسى نصيبه من الآخرة، فهو يدعو الله تعالى، ويقول في دعائه: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. أَيْ: مِنْ نَصِيبٍ وَلَا حَظٍّ، وَتَضَمَّنَ هذا الذم والتنفير عَنِ التَّشَبُّهِ بِمَنْ هُوَ كَذَلِكَ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْأَعْرَابِ يَجِيئُونَ إِلَى الْمَوْقِفِ فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ عَامَ غَيْثٍ، وَعَامَ خِصْبٍ، وَعَامَ وَلَادٍ حَسَنٍ، لَا يَذْكُرُونَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ شَيْئًا، فأنزل الله فيهم: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ...الآية. اهـ.
والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل من انشغل بدنياه ولم يلتفت لآخرته يتناوله هذا الذم.
أما من سأل الله تعالى الدنيا والآخرة فقد سلك منهج القرآن وامتثل أمر الله تبارك وتعالى حيث يقول: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77].
قال ابن كثير: وقد مدح الله تعالى من يسأله الدنيا والآخرة، فقال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]. اهـ.
وعليه، فإن من سأل الله تعالى أن يفرج عنه في الدنيا دون أن يغفل أمر آخرته، فلا حرج عليه إن شاء الله تعالى، وقد قال الله تعالى في شأن عباد الرحمن: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].
والله أعلم.